رواية الديستوبيا وفقدان الذاكرة

د. كمال عبدالملك

تقول الكاتبة الأميركية Lois Lowry لووس لوْري، إنها استلهمت موضوع روايتها The Giver - (المانح) بعد زيارة والدها المسن في دار لرعاية المسنين. لقد فقد الوالد ذاكرته، وخطر ببال لوري أنه من دون ذاكرة لم يعد هناك أي ألم. تخيلت مجتمعاً يُنسى فيه الماضي عمداً، مما يسمح للسكان بالعيش في نوع من السلام الداخلي المزيف. أدركت أن هذه الحالة من الغيبوبة المرضية ستظهر قيمة ذاكرة الفرد والمجتمع، فعلى الرغم من أن فقدان الذاكرة قد يعني فقدان الألم، إلا أنه يعني أيضاً فقدان العلاقات البشرية الدائمة والصلات مع الماضي.

المجتمع الذي تصوّره لوْري في رواية «المانح» هو مجتمع طوباوي - عالم مثالي أزال الخوف والألم والجوع والمرض والصراع والكراهية، ولكن من أجل الحفاظ على السلام والنظام يتعين على مواطني المجتمع في الرواية الخضوع لقواعد صارمة تحكم سلوكهم وعلاقاتهم وحتى لغتهم. وفي الرواية يبدو أنّ الحرية الفردية والمشاعر الإنسانية تضيف عنصراً فوضوياً في المجتمع إلى جانب الألم والصراع اللذين يسببهما الاختيار والعواطف البشرية، ولهذا يجب قمع ذكرى الحرية والعاطفة مما يعني أنّ المواطنين، رغم أنهم سعداء ومسالمون، يفتقرون أيضاً إلى الحريات الأساسية والملذات الحلال التي يتمتع بها بنو البشر الأسوياء.

وبهذه الطريقة، تعتبر رواية «المانح» جزءاً من تقليد روايات الديستوبيا المكتوبة باللغة الإنجليزية، بما في ذلك رواية «عام 1984» لجورج أورويل ورواية Brave New World (عالم جديد شجاع) لألدوس هكسلي. في هذه الروايات يتم الكشف عن المجتمعات التي قد تبدو مثالية لأن جميع السكان يتغذون جيداً أو يتمتعون بصحة جيدة أو يبدو أنهم سعداء ولكنها مجتمعات معيبة بشكل كبير لأنها تحدّ من الحرية الفكرية أو العاطفية للفرد. تتميز كل من «عام 1984» وBrave New World بشخصيات استيقظت على ثراء التجربة الممكنة خارج حدود المجتمع، لكنها إما دمرها المجتمع أو أعاد تشكيلها قبل أن تتمكن من إجراء أي تغييرات مهمة. بهذا المعنى تصبح روايات الديستوبيا بمثابة تحذيرات للقارئ: «تنبيه عام، لا تدع هذا يحدث لمجتمعك!».

لكن رسالة هذه الرواية أكثر تفاؤلاً قليلاً: بنهاية الرواية نرى Jonas جوناس، بطل الرواية، كان قد اتخذ خطوة كبيرة نحو إيقاظ مجتمعه لإمكانات الحياة الثرية. عندما أدرك جوناس أهمية الذاكرة والحرية والفردية وحتى اللون، لم يعد بإمكانه الوقوف متفرجاً ومشاهدة الناس في مجتمعه يواصلون العيش في ظل الادعاءات الاحتيالية للأنظمة الشمولية الظالمة.

نُشرت الرواية في عام 1993، وهو الوقت الذي كان فيه الوعي العام للصحة السياسية في ذروته، وهذا السياق التاريخي يتردد صداه بشكل مثير للاهتمام في بعض جوانب المجتمع التي تصورها لوْري. كانت من أبرز النقاشات حول الصواب السياسي - ولاتزال - قيمة الاحتفاء بالاختلافات بين الناس مقابل قيمة جعل كل فرد في المجتمع يشعر بالانتماء. وفي الرواية يمكن اعتبار فكرة التشابه والتساوي «Sameness» نقداً لتجاهل الاختلاف الكبير بين الأفراد من أجل تجنب أن يبدو المرء متحيزاً أو تمييزياً. في الوقت نفسه، تقترح لوْري أنه في حين أن التسامح ضروري، لا ينبغي أبداً تحقيقه بتجاهل واقع التنوع البيّن بين الأفراد والجماعات.

صرحت لوْري أن كتبها كلها تستكشف «أهمية التواصل بين البشر... الحاجة الحيوية للبشر ليكونوا مدركين لترابطهم، ليس فقط مع بعضهم بعضاً، ولكن مع العالم حولهم».

في هذه الروايات يتم الكشف عن المجتمعات التي قد تبدو مثالية لأن جميع السكان يتغذون جيداً أو يتمتعون بصحة جيدة.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر