ليسوا مجرّد أرقام

أكثر ما يوجعني في الكوارث الطبيعية أن تُختصر الحياة في أرقام باردة، تُصبح مادة للإحصاء والمقارنة لا أكثر. «قوة الزلزال 7,8 على مقياس رختر وعدد الضحايا يقارب الـ30 ألفاً إلى الآن»، هل تخبرنا هذه الجملة أن هؤلاء الـ30 ألفاً كانت لهم أحلام قضوا أعمارهم لتحقيقها ثم قُطع حبلها في لحظة؟ هل تخبرنا مثلاً أنّ لهم أحبّة تغيرت حياتهم في لحظة ورغماً عنهم؟ وهل تقول إن هذا الطفل الناجي من تحت الأنقاض الذي تتفنن وسائل الإعلام في نقل صوره لن يرى والديه ثانية؟

هم مجرد رقم قابل للزيادة مثل الـ70 مليوناً الذين التهمتهم الحرب العالمية الثانية، والملايين الأخرى ضحية الحروب والكوارث الطبيعية واللاطبيعية التي يصنعها الإنسان. يقال إن النسيان نعمة، ولكن هذه النعمة نفسها تحول دون أن يصحّح الإنسان أخطاءه، فبعد قليل يعود المقاولون إلى الغش في مواصفات البناء، ويعود المسؤولون إلى التغاضي عن غشّهم، ويعود المنتفعون إلى المتاجرة بمآسي الناس، وتعود الشمس إلى مشوارها اليومي.

حتى التكنولوجيا التي يفاخر بها عصرنا تصبح سكيناً يتحرك في الجرح باستمرار، تحاصرنا وسائل التواصل بالفيديوهات والصور والأصوات والصرخات، لتصبح عادية بعد فترة فنرى صورة يد منسحقة تحت الأنقاض، يتبعها فيديو لصبية ترقص الزومبا في النادي، أو رجل بدين يخبرنا عن فوائد ريجيم الكيتو. يمنعنا إرهاب وسائل التواصل من لحظة تأمّل فيما حدث، ومن دمعة حزن على من رحل، ومن شعور جميل يكاد ينقرض كان اسمه «الرحمة».

الجوّالات التي أدمنّاها وأصبحت الإصبع السادس المتضخّم في أيدينا، بقدر ما تكون مفيدة وعملية عند حصول الزلزال، لها جانبها الموجع أيضاً، حين يتواصل المطمور تحت الأنقاض مع أهله، ويبقون جميعاً متعلّقين بخيط واهٍ من الأمل يقوى مع الإرسال وينقطع بتلاشيه. ولا يملكون جميعاً أمام قهر الطبيعة وطغيان العجز سوى التسليم. أما هو فيرى في نفاد شحن بطاريته نفاد عمره معها، فيموت بالتقسيط، ويموت أحبته يأساً.

لا يمكننا أن نضع أنفسنا مكان من فقد أمه أو من فقد ابنه، ولكن يمكننا أن نسهم بما نقدر لنخفف بعض أوجاعهم وهيهات، أو أضعف الإيمان ألّا نعتبرهم مجرد أرقام نتفرج على صورهم كفيلم رعب مسائي على «نتفليكس». فبيننا وبينهم روابط كثيرة ليس أقلها الإنسانية.

يجدر بنا أن نتوقف مع ما حدث لنتذكر عجزَنا برغم تطورنا العلمي، ونتذكرَ «آدميّتنا» فبها وحدها نستحق الحياة، إذ «لا تنزع الرحمة إلّا من شقي».

يمكننا أن نسهم بما نقدر لنخفف بعض أوجاعهم وهيهات، أو أضعف الإيمان ألّا نعتبرهم مجرد أرقام نتفرج على صورهم كفيلم رعب مسائي على «نتفليكس».

@DrParweenHabib1

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة