«نلتقي»

العرّاب

د. بروين حبيب

ما أمرّ الفقد! نتراخى في التواصل مع من نحب معتقدين أن أجلهم يقف مكتوف اليدين ينتظرنا، إلى أن نُصدم بخبر رحيلهم، فلا نجد عزاء سوى دمعة في العين وغصة في الحلق بطعم المرارة.

رحل عنا إلى رحمة الله أحد كبار أساتذة النقد في العالم العربي؛ أستاذي وصديقي الدكتور صلاح فضل، وعادت بي الذاكرة إلى منتصف الثمانينات في جامعة البحرين، وأنا أقف بين يديه طالبةً مبهورةً بحديثه عن البنيوية والأسلوبية والتفكيكية، وغيرها من المدارس النقدية التي كنا نراها مستغلقةً علينا، فيُلبسها ثوبين من بساطة ومن عمق حتى تبدو في أجمل منظر يسر الدارسين. لاحظ بعينه اللاقطة ولعي بالنقد فكان عرّاباً لي يوسِّع لي أفق قراءاتي دون إلزام. يكفي أن يَذكر كتاباً جديداً – وكثيراً ما كان يفعل – حتى أسارع إلى اقتنائه وقراءته.

وحين عاد إلى مصر أصرّ أن أكمل الماجستير في القاهرة، ولما أخبرته أني لست سوى مُدَرّسة وإمكاناتي لا تسمح، قال لي بلهجته الأبوية المحببة «قوّي قلبك بيعي السيارة، وحين تحصلين على الشهادة تعرفين قيمة ما أقول لك» وهكذا فعلت فحصلت على شهادة الماجستير التي خففت عندي هوسي بنزار قبّاني بتوجيه من أستاذي وإشراف. وقد كتب على غلاف رسالتي حين طُبعتْ في كتاب «كان عالم نزار قباني المفعم بالسحر والشعر والغواية تعويذةً تهوّست بها (بروين حبيب) تلك الفتاة البحرينيّة الذكية المثقفة».

وحين انتقلتُ للعيش في دبي وبدأتْ نجوميّة العمل الإعلامي وغوايته تسرقني، كان الدكتور صلاح صوت الضمير الذي يلاحقني «عُمر المذيعة قصير وأنت تمتلكين أدوات الباحثة» إلى أن سجّلت للدكتوراه بإشرافه عن شعرية المرأة الخليجية. فأنا مدينة له بتكويني الأكاديمي وبمتابعة دراستي إلى خواتيمها.

وهذه العلاقة بين الطالبة وأستاذها تحوّلت إلى صداقة أقرب إلى الأبوة الروحية، فكنّا نلتقي كلما زرت القاهرة أو زار الإمارات - وكثيراً ما كان يفعل - لارتباطه بالتّحكيم في برنامج «أمير الشّعراء» وفعاليات أخرى، وبحنو المُربّي كان يقول إنه يراني في مراتب أرفع، ويحثّني على عدم إهمال الجانب الأكاديمي والعلاقة مع الجامعة، بل وبنظرة الأب الحانية لابنته - وقد عرفَ مرارة فقْدِ ابنته الدكتورة نهلة قبل عام وقبلها ابنه المهندس أيمن - كان يقول لي: «تزوّجي وأنجبي فالأمومة تغيّر كتابتك» ويوصيني بالاقتصاد دائماً خوفاً على مستقبلي. وهل الأب إلا هذه التفاصيل مجتمعة؟!

علمتُ بمرضه في زيارتي الأخيرة للقاهرة فاتصلتُ به، ورغم كونه في العناية المركّزة قال لي: تعالي، وكم كان مؤلماً لي أن أرى الرجل التسعيني الذي كان شعلة نشاط وملء سمع الثقافة وبصرها على فراش المرض يتحدّث بصعوبةٍ عاجزاً عن الحركة. راودني إحساس حزين أنها آخر مرة أرى فيها أستاذي وعرّابي، وصدق إحساسي وياليته خاب.

لم أكتب عن صلاح فضل العالم والنّاقد والأكاديمي، بل كتبت عن الإنسان الملهم الذي يغيّر حياة طلابه إلى الأفضل بدون أن يفرض عليك شيئاً. للمرّة الثانية في حياتي أشعر بوجع اليتم بوفاة أبي الروحي. لم أكتب عن صلاح فضل العالم والنّاقد والأكاديمي، بل كتبت عن الإنسان الملهم الذي يغيّر حياة طلابه إلى الأفضل بدون أن يفرض عليك شيئاً.

للمرّة الثانية في حياتي أشعر بوجع اليتم بوفاة أبي الروحي.

@DrParweenHabib1 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر