الأم التي تذرف الدموع لفقدها

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لم تكن دموع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حفظه الله ورعاه، عند سماع قراءة روايته المؤثرة عن أمه الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيان، رحمها الله؛ لم تكن تلك الدموع الغالية التي انهمرت بغزارة دموعاً عابرةً، بل إنها كانت دموعَ الوَجد على ألم الفقد الذي كان قبل 40 سنة، وقد مرت تلك السنون ولاتزال ذاكرة سموه تفيض مشاعر البر والوفاء، وكأنها توفيت بالأمس القريب.

إن سرد تلك القصة كان سرداً مؤثراً عجيباً، ويعلم الله أن عبرتي سالت على وجنتي من غير تكلف، وقبل أن أتنبه لعبرات فلذة كبدها، وأعز مواليدها الشيخ محمد بن راشد، الذي نسق تلك الرواية الذاتية من أعماق قلبه وكامل لُبِّه، لعظيم وَجده بالغ أثره بأمه التي قال عنها أكثر من مرة: ومن مثل أمي؟!

نعم من مثل أمٍ أنجبت أعظم رجل تحلى بالكمال الرجولي في عصرنا؟! أيُّ أمٍّ أنجبت فارساً وقائداً استثنائياً وسياسياً حكيماً واقتصادياً ماهراً كما أنجبت الشيخة لطيفة؟! لقد أنجبته من بين ترائبها وغذته بلَبانها الذي تفتقت منه العبقرية الفذة، والتي كان منها تلك الرواية المعبرة عن هذه الأم المثالية رحمها الله، فلا غرابة إذاً أن تنهمر الدموع الغالية عند سماع تلك المآثر العالية، وكأني بجار الله الزمخشري كان حاضراً هذا المشهد يوم رثا شيخه أبا مضر بقوله:

وقائلةٍ ما هذه الدُّرر التي * تساقط من عينيك سِمطين سِمطين؟

فقلت لها هو الدر الذي كان قد حشا * أبو مضر أذني تساقط من عيني.

نعم إنها دموع ذكرى الحنان، وذكرى التغذية، وذكرى التربية، وذكرى الآلام، وذكرى الوحشة بعد الألفة، فلا عجب أن تتحدر دموع الوجد من غير استئذان، ليكون صداها في كل قلب حيٍّ عاش في كنف أم حنون، ما فتئ أن فقدها بعد أن ذاق من نعيمها ما يخلد ذكراها.

إن أُمًّا أنجبت وغذت وربَّت وحَنَت على ولد توسمت فيه أن يكون وحيد دهره، لجدير به أن يكتب عنها مثل تلك الرواية الفائقة التي تتقاصر الأقلام عن سرد مثلها، وجدير أن تذرف الدموع عند ذكراها سواء عند سرد تلك الرواية العصماء، أم عند سرحان الخيال في ذكراها.

والحقيقة الكبرى من هذه الرواية أولاً، ومن وقعها على القلب في هذا التوقيت ثانياً؛ أن فيها توجيهاً لمعرفة مكانة الأم وما يجب لها من البر والإحسان في حياتها، وما يجب لها من الوفاء بعد وفاتها، فإن الوفاء لها بعد الوفاة ولو بمثل تلك الدموع المنهمرة التي هي أصدق تعبير عمَّا يكنه الولد هو من البر الذي سيُجزى به الولد من أولاده، فإن البر دين، كما ورد في الحديث «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم».

نعم لقد عزت علينا تلك الدموع الغالية، وأثَّرت في وجدان كل متابع، إلا أننا علمنا مدى وفاء هذا الرجل العظيم لأمه وأبيه، وهذا الوفاء هو الخلق الذي يتمادح به الناس، ويتعين على كل إنسان أن يكون به متحلياً لا سيما مع الأم التي لا مثيل لها، الأم التي ينشأ المرء من ترائبها، ويتغذى بأحشائها، ويعيش في أحضانها، ويسعد بطيب رائحتها وجمال أنسها، هذه الأم يجب أن لا تغيب عن ذاكرة المرء؛ لأنها هي التي أوصلت المرء ليكون رجلاً ذا معنى، أو أُمًّا ذات مغنى، فمن لا يبرها في حياتها، ولا يفي لها بعد وفاتها فذلك لخلل في إنسانيته، يحتاج علاجاً نفسياً حتى يعود بشراً سوياً.

إن سرد تلك القصة كان سرداً مؤثراً عجيباً، ويعلم الله أن عبرتي سالت على وجنتي من غير تكلف، وقبل أن أتنبه لعبرات فلذة كبدها.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر