والذي علّم بالقلم

محمد سالم آل علي

لا أخفيكم أنني كلما تطرقت إلى معالجة شأن عالمي، أنظر إلى واقعه في دولة الإمارات لأرى ما يبهجني ويسرّ خاطري، لذا وعندما أردت التحدث عن أهمية رقمنة المعرفة وعن دورها الأساسي في صيانة الموروث الثقافي، ودعم التعليم، وتلبية الاحتياجات البحثية، وجدت أن النظرة الثاقبة للقيادة الرشيدة استبقت ما لا يُستبق، ووضعت الأسس وأرست الدعائم، وجعلت من المعرفة الرقمية أساساً لعملية التحول الرقمي وجزءاً لا يتجزأ من مسيرة التنمية الشاملة؛ ففي أبوظبي أطلقت مكتبة اتحاد الإمارات بوابتها الإلكترونية التي تقدم محتواها الضخم مجاناً لكل الراغبين، باللغتين العربية والإنجليزية؛ وفي دبي أطلقت مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة مركز المعرفة الرقمي، ليكون بمثابة مكتبة رقمية رائدة تجمع المعارف وتنتجها رقمياً وتشكل إضافة جوهرية للمحتوى العربي على الإنترنت؛ وفي الشارقة أيضاً هناك البوابة الإلكترونية لمكتبة الشارقة العامة التي تضم ملايين الكتب والرسائل العلمية بلغات متعددة وفي شتى التخصصات.

ومن أجل فهم أكبر لهذه العملية كان لابد من الغوص عميقاً في مختلف طرائقها ومجالاتها، خصوصاً أنها تنطوي على العديد من التدابير والإجراءات المنهجية؛ فرقمنة المحفوظات ليست مجرد مسحها ضوئياً وتحويلها إلى تنسيق رقمي، وإنما هي مشروعات قائمة بحد ذاتها تعتمد كلياً على الأفراد القائمين عليها، وعلى البنية التحتية المتوائمة معها، إضافة إلى الجهات التي تدعمها وترعاها؛ ولابد علينا في هذا السياق من أن نميز ما بين نهجين، أولهما الرقمنة العشوائية، وهي التي تعتمد فقط المسح الضوئي ومن ثم التخزين، فلا مُختصون ولا منهجيات للعمل، والنتيجة بيانات ومعلومات مبعثرة وعصية على البحث والتحليل؛ أما النهج الثاني فهو ما يطلق عليه اصطلاحاً اسم «المكتبات الرقمية»، وهو نهج تضطلع به المكتبات والمتاحف ودور المحفوظات في دولة الإمارات وفي جميع أنحاء العالم المتقدم، وذلك من خلال مشروعات ضخمة يعمل بها موظفون متخصصون في كل المجالات ذات الصلة؛ فهناك العاملون في التخطيط وإدارة للمشروع، وأيضاً الفنيون المشرفون على الأجهزة والمعدات، وكذلك متخصصو الكتابة والطباعة والتحويل الرقمي، ومحللو البيانات، ومديرو الأصول الرقمية، وكذلك المستشارون العلميون والأدبيون، والمدققون اللغويون، والمخرجون الفنيون، ومراقبو الجودة والمحتوى، ولا ننسى هنا أمناء المكتبات واختصاصيي الفهرسة والتبويب، وغيرهم الكثير من القائمين والممارسين.

والعملية هنا تتضافر فيها جهود الجميع، الأفراد والمؤسسات؛ فالاستثمار بشكل استراتيجي في تطوير كفاءات الرقمنة هو الوسيلة المُثلى نحو تطوير قدرات المكتبات ومؤسسات الأرشفة، وبالتالي تمكينها من تحقيق هدفها الأسمى في توفير وصول عالمي سهل وموثوق إلى جميع مجالات المعرفة البشرية.

وإذا أمعنّا النظر قليلاً في مختلف الجوانب التي تحيط برقمنة المعرفة، سنجد أنها تقدم أيضاً فرصة استثنائية للتعليم والتدريب، وأقصد هنا مُدخلي البيانات الذين سيُثرون معارفهم من خلال القراءة والطباعة؛ وتخيلوا معي لو تمت إضافة التدوين المعرفي عنصراً رئيساً في الدورات التدريبية، أو حتى في أمكنة العمل، أي أن كل دورة أو منهاج أو تدريب لا تكتمل من دون قيام الدارسين بإدخال فقرة أو فصل إلى أجهزة الحاسوب، ما يدعوهم إلى الطباعة على لوحة المفاتيح، وذلك ضمن موضوعات تتعلق باختصاصهم وما يريدون التطور في نطاقه، ومن يطبع لابد سيقرأ، ومن يقرأ لابد سيحفظ وينمّي معلوماته، ناهيك عن تحسين مهارته الحاسوبية، وكذلك قدراته اللغوية والإملائية؛ فالفائدة هنا مزدوجة، والمعلومة لا محالة راسخة في ذهن كل دارس ومتدرب.

مؤسس «سهيل للحلول الذكية»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر