رسالة من أوكرانيا

د. كمال عبدالملك

فضّ صديقي المصري الذي يقيم في دبي المظروف وقرأ الرسالة الأخيرة من «ماريوسلافا»، زوجته الأوكرانية الجميلة التي ذهبت أخيراً لزيارة أهلها في كييف ولم تعد:

«أتذكر حبيبي حياتنا في مدينة دبي؛ كنا لا نفكر في الماضي لأننا وجدنا أنفسنا ننعم دائماً برونق اللحظة الحاضرة.. هل تذكر عندما كنّا نغلق عيوننا ونحن نتأمل الشفق الأحمر في سماء جميرا؟ جمال كان أصدقاؤنا يقولون إنّه يطهّر الأكباد من الأحقاد وتصفو عند رؤيته القلوب وتطمئن له الأفئدة.

أتذكر حبيبي اللحظات المذهلة التي تجلّت في عناقنا أثناء هطول المطر الذي يراه الناس في الإمارات رحمة من الخالق ونعمة من نعمه الكثيرة.. ستدهش عندما أقول لك أنّ ساعتها اعتراني شعور غريب أن لحظة الجمال هذه ستختفي قريباً. لحظة كنت أراها على وشك أن تخبو وأنّ عليّ الآن الاستعداد للأسوأ: لحظة أن يختفي صوت المطر، ويعلو بكاء الخوف، ويطغى نشيج التأسّي على عبور اللحظة الحاضرة إلى عالم الذكرى.

إنها تمطر الآن في كييف، ويمر رتل من الطيور المهاجرة في الأفق. أجلس على أريكتي مع الحلقة الأولى من رواية لكاتب محلي من مدينة (خرسون) المحاصرة، إنها قصة حب بين رجل روسي وامرأة أوكرانية.. وكلاهما مرتبط بشريك آخر ويعرفان في أعماق القلب أن علاقة الحب بينهما محكوم عليها بالفشل منذ البداية، لكنهما ينخرطان فيها ويستمران في الانزلاق في مسار الحياة غير مبالين بالعواقب..

أنا أستمتع بسرد هذا الكاتب الناشئ وبنبرته الحزينة وأقوم بتدوين بعض ملاحظاتي على هوامش الصفحات، بينما تتسلل قطتي (ستيبان)، من تحت الغطاء لتداعب قدمي التي تظنها حيواناً صغيراً يريد أن يلاعبها..

أعرف أنّه سيأتي الوقت الذي سيكون لزاماً عليّ أن أقول وداعاً للأهل هنا، ولكنني لا أريده وداعاً إلى الأبد.. سأفي بكل وعودي أن نكون معهم مرة أخرى.. وعندما أعود إلى دبي خذني إلى شواطئ المياه الدافئة.. فقد طال عليّ هذا الشتاء في كييف.. ليتني كنت عصفورة تحلّق في الفضاء وتجوب الآفاق وتحط على شرفتنا..

حزني فادح هذا المساء كما يقول الشاعر صلاح عبدالصبور الذي قرأنا شعره معاً. لن أنسى أبداً هذا العام الذي قضيته معك زوجي وحبيبي.. أنت الشخص الأهم في حياتي. سأفكر فيك دائماً، على أمل أن تدفع كل مواهبك الجميلة إلى أبعد مدى. فلديك إمكانات واعدة ولكنك لست ضليعاً في علوم الانضباط كما كنت تقول عن نفسك..

تشرق الشمس، أخيراً. من الصعب أن أكتب في دفتر يومياتي في وضح النهار. شيء يتعلق بأشعة الشمس يتعارض مع الإبداع؛ من الأفضل أن أكتب في عتمة المساء عندما يغمرني ضوء القمر. قلت لي مرة أن عندك نفس الشعور تجاه أشعة الشمس وضوء القمر وأنك تعتقد أن ثقافتك المصرية الأصلية هي ثقافة قمرية - نهرية، وأنك تكتب بشكل أفضل بعد غروب الشمس وعندما تكون على مرأى من نهر النيل.

مازلت أذكر أنك حدثتني عن وجود حروف شمسية وحروف قمرية في لغة العرب. الأفكار الجميلة التي تحدثت عنها تجعلني أفكر في ثقافتنا الأوكرانية.. لديّ شعور بأننا ثقافة شمسية لكنني لا أعرف السبب.. كل ما أعرفه الآن، هو أنه من الصعب الاستمرار في الكتابة والشمس تسطع في عينيّ وتلفح وجهي.. لذا سأنتظر يوماً آخر لكتابة هذه الذكريات بعد الغروب وقبل انقطاع التيار الكهربي بسبب القذائف التي يمطرنا بها أعداؤنا.. وإلى لقاء قريب.. ماريوسلافا».

«أعرف أنّه سيأتي الوقت الذي سيكون لزاماً عليّ أن أقول وداعاً للأهل هنا، ولكنني لا أريده وداعاً إلى الأبد».

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر