لسعات التوظيف

محمد سالم آل علي

في واحد من أيام شتائنا الجميل، جلست وصاحبي في مقهى مطل على البحر، نرتشف القهوة ونتبادل الأحاديث، وإذ بشخص مُقبل يحمل قوارير من العسل ليعرضها علينا، فبادرته مستفسراً عما إذا كان تاجراً للعسل أم مشتغلاً فيه، فأجابني والثقة تتلألأ في عينيه: «لقد أعطاني الله نعمة الجمع بين الأمرين، فأنا المنتج وأنا التاجر، ولديّ كل الخبرة والمهارة».

وهنا سألته عن العمل في هذا المجال، وعما يدره من أرباح ومكاسب، ليأتيني الجواب حتى قبل أن أكمل السؤال: «أجل إنه لنعم القرار وأجدى الاستثمار، فإن خضت فيه أصبت الغِنى، وإذا ائتمنتني عليه بلغت المُنى، فأنا الخبير الأوحد في هذا المجال، وأنا الذي أعلم كل الدهاليز والأسرار، فكن معي ولا تبالي، فالخبرة تغمرني، والمهنية لا تبارحني، ولا أظن أحداً في هذا العالم كله يفوقني حكمة في النحل والعسل، ولا حتى في الشهد والرحيق».

فسألته متحمساً عن كلفة المشروع، وما يحتاجه من رأسمال، فأجاب والبريق يزداد في عينيه: «ألفٌ تكفي»، وأضاف: «لكن يتوجب عليك أن تدفعها على الفور، فالموسم على الأبواب، ولابد لنا من التجهيز وشراء المعدات»، فناولته المال، وافترقنا بعد تبادل الأرقام وعناوين الاتصال.

وبعد أسبوع، اتصل بي طالباً المزيد من المال، وبرر ذلك بأن للنحل أنواعاً، وإذا أردنا المكاسب يجب أن نشتري أفضل الطوائف والسلالات، فأعطيته المطلوب متأملاً البدء بالإنتاج، وانقضت الأسابيع وأنا في الانتظار، إلى أن اتصل بي ليخبرني أن يومنا هذا هو اليوم الموعود، وعليّ أن أرافقه إلى المناحل لرؤية الإنتاج وثمرة الجهود.

وفعلاً وصلنا المكان عند الغروب، وبقيت في السيارة، بينما ترجل هو سائراً باتجاه الخلايا، وقد لفت نظري أنه لا يرتدي أي لباس للوقاية والحماية من لسعات النحل، فسألته عن سبب ذلك، فأجاب على الفور: «إنما الملابس الواقية للمبتدئين، وليس لمربي نحل مخضرم مثلي، صقلته السنون بالحنكة والتمرس»، ثم تابع طريقه وأنا أراقبه من بعيد.

وبمجرد وصوله إلى الخلايا، بدأ يتخبط عشوائياً، ويلوح بيده صارخاً، ويركل الهواء، فأغلقت النوافذ وأنا أتابعه يركض باتجاهي يعمّه النحل، وهو يصيح ويتلوى، إلى أن خرّ قرب السيارة مغشياً عليه، فانتظرت برهة حتى فارقته النحلات، ثم وضعته في المقعد الخلفي، وانطلقت به إلى أقرب مستشفى، حيث وضعوه في العناية المركزة، وبعد أن نجا واجتاز مرحلة الخطر، أخبرني الطبيب المعالج بأن إسعافي له أنقذ حياته، فجسمه كان متورماً ومغطى بمئات اللسعات.

بعد هذه الحادثة ببضعة أشهر، دخلت أحد المهرجانات الموسمية لأتجول فيها وأعاين المعروضات، وفوجئت برؤية النحّال العظيم واقفاً وراء عربة للشواء يقدم الطعام للزبائن، فاقتربت دون أن يشاهدني، وسمعته يتحدث قائلاً لأحد الزائرين: «أنا الشوّاء الأبرع، وأنا الأدرى بكل أنواع اللحوم والدهون، وخبرتي التي اكتسبتها عبر السنين لا يضاهيها لحّام ولا قصّاب، فاعهد لي بمشروع مطعم للمشاوي وأنا أضمن لك الثراء وملامسة السحاب».

وهنا تبادرت إلى ذهني فوراً مشكلة الادعاءات التي نراها يومياً في آلاف السير الذاتية المرسلة إلى هنا وهناك، وتوصلت إلى أن هذه المشكلة لن تُحلّ إلا باعتماد الذكاء الاصطناعي، وما يرتبط به من بيانات ضخمة، أي من خلال برمجيات ذكية مربوطة مع جميع الجهات والمؤسسات، تبحث عن الاسم، وتتحقق من السير الذاتية، وتعطي أوزاناً لمستويات الصدقية فيها، وهي هنا لن تكون عوناً لأقسام الموارد البشرية فحسب، وإنما هي لباس مُحكم سيقي الشركات ويحميها من اللسعات.

مؤسس «سهيل» للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر