مفهوم التربية

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

اشتُقَّت كلمة التربية من المربِّي الذي يُغذي من يحتاج لتغذية نفسية أو جسدية، حسية أو معنوية، لصغرٍ أو فقدٍ للأهلية، والربُّ سبحانه وتعالى هو الذي يربي خلقه، بمعنى يغذيهم بنعمه الظاهرة والباطنة، فالعطاء منه تعالى بوصف الربوبية.

والذي يجب لفاقد الأهلية من التربية شيءٌ كبير، وأهمها التربية الروحية والنفسية التي تعني تنشئته على المكارم الخُلقية، والآداب الإسلامية، والمعاني الإنسانية، وغرس المعارف النافعة في فؤاده، حتى ينشأ وقد انطبعت هذه الخلال الكريمة في نفسه، وأصبحت جزءاً من حياته، فهذه هي التربية التي يحتاجها الصغير ونحوه ممن يقبل التربية.

إن اقتصار مفهوم التربية على الغذاء والدواء، يعني تربية الجسم دون أن يكون سليماً نافعاً صالحاً مصلحاً، فإن المربي إن اقتصر على ذلك يكون قد أخل بأوجب واجباته، فالإنسان في هذه الحياة لا يعيش بجسد دون قيم مُثلى تكون عوناً له على الحياة المنشودة، وكما قال أبوالفتح البُستي، رحمه الله: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته.. أتطلب الربحَ فيما فيه خسرانُ؟!

أقبل على النفس واستكمل فضائلها.. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

فمن يتولى التربية ويهمل هذه القيم يعد مفرطاً في واجبه نحو من يربيه، ولم يكن أهلاً للتربية.

إن التربية الروحية أمانةٌ في عنق الأبوين أولاً؛ لأنهما الملاصقان للطفل، فرتب الإسلام عليهما مسؤوليةً كبيرة سيسألان عنها، كما قال عليه الصلاة والسلام: «كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن أهله، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها..»، والراعي هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر عن المَرعيِّ، وأيُّ ضُرِّ أكبر من أن يهمل غرس القيم الإسلامية والإنسانية في نفس مرعيِّه، فإذا لم يغرس فيه قيم المحبة للأقارب والأباعد، واحترام الكبير والصغير، وطيب الكلام، والكرم والوفاء، والسماحة والإخاء.. فإنه سينشأ فظاً غليظاً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وسيعيش في شقاء وشقاق مع القريب والبعيد، وأول من يكتوي بذلك هو المربي إذا كان قريباً ملاصقاً، لهذا كله كانت الآداب في الإسلام لها الاهتمام الكبير، لاسيما مع الناشئة، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يغرسها في الصغار قبل الكبار، فيقول لابن عباس، رضي الله عنهما، إذ كان غلاماً: «يا غلام، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، جَفَّت الأقلام، ورفعت الصحف، والذي نفس محمد بيده، لو جهدت الأمة على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو جهدت الأمة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتب عليك».

فغرس فيه قيمة الإيمان بالله، والاستعانة به دون أحد سواه، وعدم الاتكال على الآخرين، ويقول لعُمر بن أبي سلمة، رضي الله عنهما: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، فغرس فيه أدب الطعام والمجالس، ويقول لسبطه الحسن بن علي، رضي الله عنهما: «كِخ كِخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة»، ليغرس فيه الورع وعدم أكل الحرام، إلى غير ذلك من الأمثلة والشواهد التي تملأ كتب الحديث بما سُميت بكتاب الأدب، أو الآداب، حتى يقتدي به المربون فينشِّئون عليها الأجيال الصالحة النافعة لنفسها وغيرها.

إن تربية الناشئة على حب الذات وكراهية الآخر وحسد الناس وبغضهم والاستطالة عليهم، تعد جنايةً في حق هؤلاء الأطفال الذين هم أمانة عند المربين، لأنهم نشؤوهم على ما يضرهم، فضلاً عما يكتسبونه من الإثم في الإساءات التي لن تقتصر على الأباعد، بل ستكون سجية فيهم ليوقعوها على القريب والبعيد، وذلك ما يوردهم الموارد السيئة في الدنيا والآخرة، إذ يترتب عليها قطع أرحام، وانتهاك محارم، والإساءة للأوطان والمجتمعات، وكل ذلك كان يمكن تلافيه لو أن التربية الصحيحة انغرست فيهم حال تقبُّلهم لها، وذلك هو حال الصغر، أما بعد الكبر فقد لا تفيد، وكما قالوا:

عدل الغصنَ ما دام يعتدلُ * ما ينفع التعديل عند الكبرِ * «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر