شرق.. غرب

صورة الأب بين ثقافتين

د. كمال عبدالملك

اشتهى الهمذاني الأزاد وهو في بغداد واشتهيت أنا وجبة «كشري» فاخرة وأنا في القاهرة.. التقيت بصديق مصري عزيز في وسط البلد وأكلنا معاً «الكشري» بالبصل المقلي والشطة، ثم جلسنا في مقهى قريب وشربنا القهوة. خلال كل هذا، لم يتوقف صديقي عن الكلام عن ولده، عاطف، حديث الولادة: («طيفه» ابتسم في وشي، (طيفه) شاف المروحة وضحك، «طيفه» دا واد محصلش!».. كنت سعيداً لصديقي، ولم أود أن أصحح الخطأ المنطقي في جملته الأخيرة، لأن كون ابنه «طيفه» ولد فقد حصل بالفعل.

جعلتني هذه الذكريات أبحث عن صورة الأب في ثقافتنا العربية ونظيرتها الغربية. الغريب أنها بالإجمال صورة سلبية وتتجلى في تمثيلات تبدو معادية للأبوة ولشخصية الأب. نقرأ في الأساطير الإغريقية عن كرونوس، إله الزمن، الذي يأكل أبناءه حال ولادتهم، ما اضطر الأم إلى أن تخفيهم بعيداً عنه، وبهذا أنقذت حياة زيوس الذي كبر وقتل هذا الأب الجائر. وقتل الأب يتجلّى أيضاً في مسرحية «الملك أوديب» لسوفوكليس، ورواية «الأخوة كرامازوف» للكاتب الروسي دستويفسكي.

في أدبنا العربي يكتب أبوالعلاء المعري (المتوفى 1057م) متهماً أباه: «هذا جَنَاهُ أبي عليَّ وَمَا جَنَيتُ عَلَى أَحَدِ»، وكأنه يقول: «وجودي في هذه الدنيا جريمة اقترفها أبي ضدي، أما أنا، لكوني لم أتزوج ولم أنجب، فلم أرتكب هذه الجريمة ضد أي أحد». الإيحاء الكئيب هنا هو أن ولادة المعري كانت مأساة - ارتكبها والده كجريمة - وأن عدم إنجاب الشاعر الكبير أولاداً كان خدمة للإنسانية.

وفي الأدب الأوروبي يتجلى في كتابات فرانز كافكا الخوف من الأب، ومحاولة الإفلات من قبضته، ولكنه لم يستطع، فالحياة مستحيلة من دون أبيه، ومستحيلة أيضاً بوجود أبيه. يعبّر كافكا عن الأذى النفسي الذي سبّبه الأب المستبد، ويفصّل فداحة خيبة الأمل في الحصول على حبّه في رسالة من 47 صفحة كتبها إلى والده هيرمان في نوفمبر عام 1919، يلومه فيها على رفضه لرغبته في الزواج من حبيبته فيليس باور؛ ما أدّى إلى فكّ الخطوبة. ويخوض كافكا - البالغ من العمر 36 عاماً حينها - في انتقاد أبيه على معاملته القاسية ومعاييره المزدوجة المربكة، واستيائه المستمر، وهو انتقاد هادئ ومحسوب، لكنه شرس في بعض تفاصيله، إذ تتجلى فيه خيبة أمل الابن في والده، خيبة تراكمت على مدى 30 عاماً.

وفي ثلاثية نجيب محفوظ تقابلنا شخصية الأب المتمثلة في «سي السيد»، التي تراوح بين الحنان والفظاظة والرعاية الظاهرية والإهمال. في الجزء الأول من الثلاثية، نرى «سي السيد» البطل - الأب، شخصاً قوياً يعتقد أنّه مخلص في كل ما يفعله ويعتنقه، ويقود أسرته بالقيم والمثل القاسية. الأولاد يخافون منه، وزوجته تركع تحت قدميه، وهو يستيقظ ويسترجع مشاهد سهرته مع السلطانة وزبيدة، ولا يرى أي تناقض بين ما يظهره من جده وصرامته في النهار وما يخفيه من فسقه وخلاعته في سهراته الليلية.

أبدع محفوظ في وصف معاملة الأب الديكتاتور لأولاده في صورة مختزلة ومكثفة عندما وصف وقت الإفطار: يجلس «سي السيد» وينادي أبناءه الثلاثة الذين يقفون ينتظرون النداء، وما إن ينتهي من الأكل ويخرج يبدأ صراع الأبناء على الأطباق، ثم البنات والأم.

إنّ صورة الأب في الأدب تجسّد إدراكنا لفداحة هذه المأساة الإنسانية: رضا الوالد ومحبته لنا ليس حقاً من حقوقنا، ولكنه منحة منه ومكرمة، إن شاء أنعم بها علينا وإن شاء حرمنا منها.

باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر