شرق.. غرب

عن الكتابة الإبداعية وعلاج آلام النفس

د. كمال عبدالملك

الحياة الأكاديمية فيها كم كبير من التقشف؛ سنوات طوال من البحث والكتابة الأكاديمية بموضوعية صارمة كافية أن تجعلك تتوق إلى أن تجرّب كتابة شيء آخر، شيء أقل موضوعية وأكثر ذاتية، شيء لا يتولّد من خلايا الدماغ ولكن من طيّات الحشا بعد أن تتلقى لكمات الحياة الموجعة.

لا شكّ عندي أنّ قيمة هذه الكتابة الإبداعية تكمن في كونها علاجاً لآلام النفس وتباريح الأشواق.

اسمحوا لي أن أستعرض ما حدث مع صديق لي، استمتع بأطايب الأزهار في بستان الحياة ولم يسلم من وخزات أشواكها ونخزات حسكها. جاء يشكو لي ألمه ويخبرني أنه بعد سنوات 10 من فراق من كان يحبّها راسلها فردت بكلمات طيبة تقول إنها تزوجت منذ وقت قريب. امتزجت فرحة التواصل مع حرقة الشعور باستحالة التلاقي، فهو قد عاش لسنوات 10 وحيداً يتخيلها تمرّ به في مول دبي أو على شواطئ الفجيرة، ولكنه أدرك أن الأمل أضحى سراباً، واللقاء أمسى حلماً مستحيلاً.

سألني: «هل عندك يا صديقي ما تقدمه لي من علاج لآلامي؟»، قلت له: «عليك بالكتابة الإبداعية تعّبر بها عن فرحك بلقياها وألمك لفراقها، اكتب عن ذكرياتك السعيدة معها، عن رحلاتك ونزهاتك معها في هذه الإمارات الجميلة». ولمعت عيناه عندما أضفت أن حياة البحث والتدريس تروق لي ولكن أجدني دائماً متشوقاً لساعة الخلوة مع الكتابة الإبداعية، أبثّ في طياتها ما اعتمل في النفس وما وقر في الضمير.

وكانت المفاجأة السارة عندما أرسل لي بعض ما كتب. واستسمحته أن أقتبس هنا سطوراً مما ألّف:

كنت أجلس في السيارة التي تتحرك بسرعة من دبي إلى أبوظبي، وأتأمل في هذا الخيط الهش الذي من خلاله نتمسك بالحياة، وأفكر فيما أودّ أن أتركه لمن أحبهم. ليس فقط الأشياء المادية ولكن معرفة ما هو جميل في الحياة، ومحبة الأصدقاء لي، والأمل في أن يتذكروني في سنواتي السعيدة التي كانت مملوءة بأصوات الضحك وضجة الأحاديث، وليس سنواتي التي كنت فيها شبه مريض أعاني ألم الجسد وإرهاق الروح وسوء المزاج المصاحب لكليهما.

أتذكّر الأماكن التي كنّا فيها سعداء، والتي كانت تمرّ في ذهني أثناء قيادة سيارتي. فاجأتني مرة بقولها: «استعدّ صباح الغد، يا حلو! «سأخطفك» وآخذك معي إلى أمكنة جميلة، لا تسألني إلى أين.. ربما إلى جزيرة السعديات في أبوظبي أو كورنيش عجمان وربما إلى شواطئ خورفكان أو عيون الفجيرة..».

أتذكّر الطريق الصاعد إلى جبل حفيت، وطوافنا عند مغيب الشمس بشوارع هادئة لا نعرف أسماءها ونحن نستنشق نسمات هواء العين النقي الذي يمنحك السلام الداخلي.

ما أن نرجع من العين إلا ونبدأ رحلاتنا بالسيارة إلى رأس الخيمة حيث الريح الباردة على قمة جبل جيس، ثم إلى الفجيرة والسطوع الفجائي للشمس، ولقاء الصدفة مع غوّاصين من أوروبا الشرقية وسباحتنا نحو الصخرة المقابلة لفندق «ساندي بيتش» إلى الشاطئ الآخر الذي نسيت اسمه، ونزهاتنا على الطريق بين عجمان والشارقة وأم القيوين على شواطئ تكسوها الرمال النظيفة على مدى البصر وإطلالتنا على الطائرة المروحية التي حولوها إلى مقهى والمشي على طول المسار الرملي، وسؤالها لي والابتسامة الماكرة تتخايل على وجهها الصبوح: «قل لي: ماذا قال نسيم الريح للرشا؟»، وأردّ بابتسامة مراوغة: «تماماً ما قاله البحر للنخلة».

أشكرك يا صديقي، فقد هدأت عواصف روحي بعد سرد هذه الذكريات الجميلة، ووجدتني أتمنى لها صادقاً كل الخير والسعادة في حياتها الجديدة. 

باحث زائر في جامعة هارفارد 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر