شرق.. غرب

تأملات في شرب الشاي على الطريقة اليابانية

د. كمال عبدالملك

كتبت رسالة لصديق ياباني كان ممثلاً لبلاده في الإمارات وردّ فيها: «... مازلت أذكر صلالة وحديثك الرائع. نعم، صديقي، مازلت أذكر الطبيعة شبه الاستوائية هناك وهطول الأمطار الموسمية وسط صحراء جافة وكلامك عن الطريق إلى السعادة والسلام الداخلي، ذكريات رائعة وعزاء لنفسي في الآونة الأخيرة.. أرغب في استئناف الترحال والتجوال مرة أخرى كلما أعيد شحن بطاريات الروح، آملاً أن تستقر الأمور قليلاً ويصبح الوباء تحت السيطرة حتى يمكننا أن نلتقي لتعرفني على ما فاتني معرفته عن التراث العظيم للأمة اليابانية».

وجدتني منبهراً بالتقاليد اليابانية لشرب الشاي، تقاليد جعلت من المهمة البسيطة المتمثلة في إعداد مشروب للضيف نوعاً من الفن. «تشادو» باليابانية، هو فن إعداد وتقديم شاي «الماتشا» الأخضر المجفف، ويُعتبر حفل الشاي أحد الفنون الكلاسيكية في اليابان، فن قد يرجع تاريخه إلى عام 815. في تلك السنة، عاد الراهب إيشو من الصين، ليعرّف اليابانيين على الشاي الذي كان مشروباً في الصين لأكثر من 1000 سنة. وبحلول القرن الـ16 الميلادي أصبح شرب الشاي شائعاً بين جميع مستويات المجتمع الياباني.

عندما كنت طالب دكتوراه في جامعة ماكجيل بمونتريال، حضرت حفلاً لشرب الشاي على الطريقة اليابانية. خلعنا الأحذية قبل الدخول إلى غرفة الانتظار في بيت الشاي. كانت مضيفتنا شابة يابانية جميلة ترفل في ثوب الكومونو وتستقبلنا بانحناءة صامتة. كان علينا أن نقوم «بتنقية أنفسنا روحياً». وحيث إننا كنّا جمعاً من الطلبة والأساتذة وننتمي إلى المختلف من الملل والمتنوّع من النحل، فلم نكن نعرف كيف يمكن للواحد منّا أن «ينقي نفسه روحياً». أشارت إلى حوض حجري قالت إن علينا أن نغسل اليدين والأفواه قبل دخولنا إلى غرفة مفروشة بحصير «التاتامي»، حيث يُتوقع منا التعليق على الزخرفة الموجودة في النوافذ أو على ترتيب الزهور الموسمية.

وبهدوء وروية ذكرت لنا أن المبادئ التي يقوم عليها حفل الشاي أربعة: الانسجام والاحترام والنقاء والهدوء. ثم عرضت علينا عدداً من الأدوات المتخصصة، بما في ذلك وعاء الشاي المعروف بـ«شاوان»، ومغرفة للشاي المجفف مصنوعة من الخيزران، وخافقة للشاي معروفة بـ«شاسن» والمنحوتة أيضاً من الخيزران.

كان غريباً علينا - نحن القادمين من مجتمعات عربية - أن نري مضيفتنا تبدأ الحفل بتنظيف الأواني أمامنا وبدقة متناهية، فهذا التنظيف والإعداد الدقيق نقوم به في المطبخ. بعد ذلك أكملت إعداد الشاي في غلاية على نار الفحم مع الاهتمام المماثل بالتفاصيل، ثمّ سكبت الشراب النهائي في وعاء يشبه صحن الحساء سلّمته إلى الضيف الأول بيننا.

رفع المتلقي الوعاء كعلامة احترام لخبيرة الشاي، تأمّله وتنشّق بخاره ثم أخذ رشفة، ومدح الخبيرة على طعم الشاي وجمال الوعاء. وأخذ كل واحد منا يتأمل ويتنشّق ويرتشف شايه لساعات لم نشعر بمرورها.

في تلك الفترة كنّا نقرأ الدراسات العلمية الجادة للمستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو (1914-1993)، الذي كان يجيد أكثر من 30 لغة، من بينها العربية والفارسية واليونانية، ونعجب لقدرته على التركيز والمثابرة حتى وضح لنا أنه تربى على تعاليم تقاليد اليابان الكلاسيكية، مثل ترتيب أزهار الكودو وطقوس شرب الشاي التي تتطلب التركيز والتأني والتأمل في جمال الحياة ورونق الوجود.

 باحث زائر في جامعة هارفارد 

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  

تويتر