5 دقائق

الوحدة الإسلامية المنشودة مفهومها وواقعها

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

عقد المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة في أبوظبي مؤتمراً عالمياً مهماً، بعنوان «الوحدة الإسلامية الفرص والتحديات»، وهو العنوان الأبرز في ثقافة الأمة الإسلامية، وذلك من واقع إيماني، ومفهوم خالطه لبْس كبير، واستُغل استغلالاً سيئاً من قبل ذوي الأيديولوجيات الانتهازية، ولم يدُر بخلَد مؤسسةٍ علمية أو ثقافية بحث هذا المفهوم وتقريبه للعالم الإسلامي، فكان فرصةً لاستغلاله استغلالاً غير سديد.

وجاء المؤتمر الذي حضره حشد من علماء الأمة الإسلامية، ليبحث هذا المفهوم، من واقع نصوص الوحيين، وكلام أهل العلم المعتبرين، وواقع العصر الذي نعيشه، وأمل الأمة في مستقبلها.

لقد عانى الفكر الإسلامي المختطف من المفاهيم الأحادية التي أمليت على الناس، وانتشرت وذاعت، حتى تبين للناس بطلانها، فكان لابد من تصحيح الفكر والنظر للمفاهيم الإسلامية التي تعبِّر عن أصلها ومصيرها.

إن الوحدة الإسلامية هي وحدة ربانية، نصت عليها الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، فوصف الله تعالى هذه الأمة بأنها «أمة واحدة»، لأنها تؤمِن بنبي واحد، ولها كتابٌ واحد، وشريعةٌ واحدة، وعبادتها لربها عبادةٌ واحدة، ولها مقوِّمات إيمانية ومكارم أخلاقية واحدة، وهي في الوقت نفسه تقابل أطرافاً أخرى مفترقة الديانات والعبادات والمشارب الفكرية، وجميع تلك الأطراف في حقيقتها تعد أمةً أخرى؛ لأنها تقابل الحق الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين أجمعين، وهو الإسلام الذي هو الدين الذي اصطفاه الله لنفسه، ولم يرتض ديناً سواه.

فالوحدة الإسلامية إذاً هي وحدة العقيدة والشعائر الدينية، لا وحدة السياسة والزعامة، كما رُوِّج لها رِدحاً من الزمن، وإلا لكانت الممالك الإسلامية المتعددة والشعوب المختلفة قد ناقضت ما أخبر الله تعالى به عن حالها، ومعلومٌ أن خبره سبحانه ذلك، محكمٌ غير منسوخ؛ لأن الأخبار لا يدخلها النسخ اتفاقاً، وواضح غير مُجمل، وقد عاشته الأمة الإسلامية واقعاً منذ 14 قرناً ونيِّفاً، وهي تستشعر هذه الوحدة الروحية والإيمانية، وإن اختلفت شعوباً وقبائلَ وممالك، فذلك هو واقعها الماضي والحاضر والمستقبل، ولا سبيل إلى تغيير الواقع الممكن بالمتصوَّر المستحيل.

نعم نحن لا ننكر أن الأمة الإسلامية عاشت عصوراً متوحِّدة سياسياً، وكانت لها يدٌ طولى في المشارق والمغارب، إلا أن ذلك أمر فرضه واقعها، وساعدتها ظروفها، فإذا تغيرت الظروف، تعيَّن التعايش مع الممكن الذي هو من مفهوم الأمة الواحدة في الإسلام، فهو مفهوم مرِنٌ، يحقق المقاصد الكبرى للأمة الإسلامية والبشرية؛ من التعارف، والتعايش، والتعاطي مع حضارة العصر بإيجابية، مع الحفاظ على تراثنا وأُسس ديننا العظيم.

إن الأمة الإسلامية هي الأمة التي نشرت العلم في المشارق والمغارب، وأقامت حضاراتٍ، وتعايشت مع ثقافات الأمم تعايشاً إيجابياً، مكَّن البشرية من التقدم الصناعي والتقني، ولازالت أُمَّتُنا تفيد البشرية بكل مقومات الحضارة الإنسانية من خلال ثقافتها العلمية والعالمية، وهي تنتمي لقبائل وشعوب مختلفة اللسان واللون والعرق، وينظر إليها الآخر بأنها أمَّةٌ واحدة، فلا يفرق بين المسلم المشرقي والمغربي والآسيوي والإفريقي؛ لأن القاسم المشترك بيننا هو الإسلام الذي نعتقده وندين الله تعالى به، فهذا النظر من الآخر يمثل وحدةً لنا، ولا يُضيرنا تنوع السياسة والجنسيات.

الوحدة الإسلامية التي ينشدها المسلمون وُحدةٌ مقدسة، يجب أن تصان عن التحريف واحتكار المعنى الذي لا يمكن تحقيقه واقعاً؛ لأن ذلك يعد تعدِّياً على المفهوم القرآني المصون عن تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وفي الأمة الإسلامية رجالٌ أفذاذ لا يقبلون مثل ذلكم الاحتكار، وقد أخذ الله تعالى عليهم العهد ببيان الحق وعدم كتمانه. وها هو المؤتمر قد أبان حقيقة هذا المفهوم، وسيعمل على نشرها بين الشعوب الإسلامية وإيصالها للشعوب الأخرى، حتى يعلم الجميع أن المفهوم الأيديولوجي الذي ساد فترة من الزمن ليس هو المفهوم الحق في نظر الإسلام.

والله يقول الحق ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر