5 دقائق

نعم للكرم.. لا للإسراف

محمد سالم آل علي

في حين يخيّم شبح المجاعة على مئات الملايين حول العالم تهدر البشرية سنوياً نحو 1.3 مليار طن من الأغذية تقدّر قيمتها بنحو تريليون دولار، حسب ما جاء في تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو FAO)؛ وطبعاً لا تُستثنى هنا دولنا العربية التي تصل معدلات الهدر فيها إلى عشرات المليارات من الدولارات سنوياً تكون ذروتها بالطبع في شهر رمضان المبارك.

ليس من طباعي الميل للعتب وانتقاد الناس، لكن موضوع الهدر والإسراف في شهر رمضان، وما يحيط به من عوامل وظروف، هو شأن يهم الجميع، ولابد من الحديث عنه مراراً وتكراراً؛ وعلى الرغم من أنني أعلم تماماً بأن هذا النقاش قد تطرّق إليه الكثيرون من قبلي ومازالوا حتى الآن يطرحونه في كل مجتمع ومحفل، إلّا أن ما سأرويه لكم هو نتاج لتجربة فردية عشتها بكامل تفاصيلها وتركت لديّ ما تركت من الآثار والانطباعات.

بدأت القصة حين دُعيت إلى مأدبة الإفطار عند أحد أصدقاء الطفولة، وكم كانت سعادتي كبيرة حين التقيت بمجموعة المدعوين الآخرين الذين كانوا أصدقاء لم ألتقِ بهم لسنوات عدة؛ فقد كنا خمسة عشر شخصاً جمعتنا مائدة كبيرة زُينت بأدوات المائدة من كؤوس وأطباق، مع الإبقاء على مساحات كبيرة مخصصة لصواني الطعام والحلويات.

وكعادتنا نحن أبناء الإمارات كان الكرم والسخاء السمة الأبرز لمُضيفنا حين جيء بالطعام، فالكميات الوفيرة تنوعت بكل ما لذ وطاب، ولا أبالغ حين أقول إن ما من شيء اشتهته نفسي إلا وكان حاضراً على تلك المائدة العامرة.

بيد أن المشكلة الحقيقية كانت في غياب التنظيم والتنسيق، فصاحب الدعوة بدأ يغرف عشوائياً من الصواني ويلقي بكل ما فيها في أطباقنا، سواء أردنا أم لم نرد، حتى رُصّت الصحون بما يفوق الحاجة والاستطاعة، وتناثر الطعام هنا وهناك، إلى أن غادرنا المائدة إشفاقاً على بطوننا، وتبقى في طبق كل منا من الطعام المهدور ما يكفي شخصين وأكثر.

إن ما قام به صاحب الدعوة، وإن كان يظنه من كرم الضيافة وحفاوة الاستقبال، هو واحد من أشد أشكال الهدر التي عاينتها في حياتي، فعوضاً عن بقاء الطعام سليماً في صوانيه حتى يعاد توزيعه لأصحاب الحاجة؛ أصبح بقايا وفضلات مختلطة لا مكان لها سوى القمامة.

والأجدى لو كان هناك تنظيم أفضل، فكمية الطعام المقدمة يجب أن تتناسب أولاً مع عدد المدعوين، كما أن طريقة التقديم لها دور كبير في تقليل الهدر، وبدلاً من الصواني والمناسف التي توضع عشوائياً على الطاولة؛ هناك أسلوب الموائد المفتوحة الذي له من الانضباط والترتيب ما يحفظ الطعام ويسهّل توزيع الفائض منه؛ وهناك أيضاً طريقة الوجبات المحددة التي تكون عادة مدروسة من حيث الكمية والمكونات بالشكل الذي يكفي جميع المدعوين، بل ويزيد على حاجتهم أحياناً.

إن ما نحتاج إليه اليوم في مجتمعاتنا أكثر من أي وقت مضى هو ضرورة التفريق بين الكرم والإسراف، وهذا لن يتحقق إلا من خلال إدماج ثقافة الترشيد عنصراً رئيساً ضمن العادات والتقاليد؛ كيف لا والعالم يعيش ضغوطاً اقتصادية عدة رفعت من الأسعار وأرهقت الأسر؛ والكثير من التهديدات بدأت تلوح بالأفق، سواء من جهة ندرة المياه أو من ناحية الأمن الغذائي العالمي؛ ولعلّ الحل هنا بسيط وواضح وضوح الشمس، بل ونقرؤه كل يوم بقوله عز وجل «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا».

* مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر