5 دقائق

الديوك الرومية في ميدان جامعة هارفارد

د. كمال عبدالملك

الديك الرومي يسميه الفرنسيون بالديك الهندي، والإنجليز والأميركان بالديك التركي، وفي تركيا يسمونه بالدجاج الهندي، ويدعى في الهند دجاج البيرو، وبالعربية يسمى الديك الرومي أو الديك الحبشي، ويُسمى في اليونان بالدجاج الفرنسي أو الغالي gálos نسبة إلى بلاد الغال، أما الإيرانيون فيسمونه بوقلمون.

فما أصل هذه الطيور؟ يذكر أن أصل الدجاج الرومي من أميركا، إذ عرفت في الحضارات المكسيكية القديمة واستجلبها الرحالة الأوروبيون إلى العالم القديم في بدايات القرن الـ16، وكما جرت العادة في المسميات، فإن المسمّى غالباً كان ينسب إلى موطنه الافتراضي أو البلد الذي عُرفت به.

كنت أسير يوماً في شارع جانبي متفرع من هارفارد سكوير (ميدان هارفارد) عندما توقف المرور فجأة وخرج سائق وهو يصرخ غاضباً ليس في وجه أحد من السائقين، ولكن في وجه ديوك الرومي الضخمة التي كانت تتبختر في دلال وهي تعبر الطريق.

علمت في ما بعد أن هذه الطيور الضخمة (قد يصل وزنها إلى 20 كغ) تحتل ميدان هارفارد سكوير، وسط العقارات الفاخرة وأفضل أماكن التسوق وتناول الطعام في مدينة كامبريدج. وقد ترى أو لا ترى طلاباً يتجولون في ميدان هارفارد، ولكن سترى دائماً الثلاثي المعروف من ديوك الرومي، التي تعرف على وسائل التواصل الاجتماعي باسم لاري ومو وكيرلي جو، أو باسم ديوي وتشيتيم وهاو، أو توم الأب وتوم جونيور وتوم الثالث: ثلاثة ديوك رومية تسكن حالياً لمدة ثلاثة أسابيع في تقاطع شارع ماساتشوستس مع شارع هارفارد، على الجانب الآخر من مطاعم هونغ كونغ وشارع جرافتون.

يبدو أن الثلاثي عبارة عن «طومز» (ذكور ناضجة) وربما «جيك» صغير جداً (ذكر غير ناضج) أو دجاجة. من السهل التعرف إلى الطومز من خلال حجمها وتناثر ريش الذيل المهيب، بالإضافة إلى تلوين الرأس باللون الأزرق والأبيض، ولحية الديك الرومي - خصلة شعر بارزة من الصدر- وحشيرة حمراء كبيرة تتدلى من الذقن، ووظيفتها جذب الإناث (لا أحد يعرف كيف)، وتبدو الطيور سعيدة بالتسكع المحرّم قانوناً على سائر الأميركيين، ويعرف هنا بـ No Loitering.

والديك الرومي، كما الطاووس الذكر، يزهو بجمال ريشه وقد تراه في ميدان هارفارد وهو ينفش ريشه ويتفحص باهتمام انعكاس صورته في النافذة، أو وهو يقطع الطريق ووراءه رتل من حريمه، وويل لمن تسوّل له نفسه أن يقترب من حريمه لالتقاط صورة، لأنه سيهجم عليه بعدوانية سافرة، فيتوجب الحذر كل الحذر من مخالبه الحادة.

انقرضت ديوك الرومي، التي يُنظر إليها على أنها رمز لمقاطعة نيو إنغلاند القديمة، إلى حد كبير هنا، منذ 50 عاماً، عندما قرر دعاة الحفاظ على البيئة التقاط بعض الطيور من شمال نيويورك وإعادة تربيتها هنا في السبعينات من القرن الماضي.

في صباح بارد، أخيراً، شوهدت جماعة من هذه الطيور تتمايل بشكل عرضي جنوب شارع ماساتشوستس في ساعة الذروة خارج ميدان هارفارد، ويبدو أنها كانت غافلة عن حركة المرور السريعة، ولكن يُحسب لها أنها عبرت في ممر المشاة، ما يضفي صدقية على الادعاء بأن هذه الطيور البرية تمتلك ذكاءً في الشارع أكثر من أبناء عمومتها المستأنسة. تباطأت السيارات حتى توقفت، وسحب المارة هواتفهم الذكية لتسجيل اللحظة.

تملّكني شعور بالدهشة مما أرى في ميدان هارفارد، ووجدتني، أنا المطّلع على أدب الرحلة، استحضر الإحساس بالدهشة والغرابة عند الإدريسي في «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وابن بطوطة في «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، والشدياق في «كشف المخبّا عن فنون أوربا»، وتوفيق الحكيم في ميادين باريس، وأسجّل غرائب الأنام وعجائب الأنعام في مدن العالم الجديد.

* باحث زائر في جامعة هارفارد

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر