5 دقائق

العُملات المشفّرة ما بين اليوم والغد

محمد سالم آل علي

يتساءل العامة قبل الخاصة من الناس عن إمكانية أن تحل العُملات الرقمية المشفرة محل العُملات التقليدية، وفيما إذا كان سيأتي يوم تكون فيه خياراً أوحداً عند إجراء المعاملات المالية وإبرام الصفقات.

طبعاً لا أحد لديه الإجابة الكاملة، إلا أنه يمكن وضع بعض التصورات والمقاربات، ومن أجل ذلك دعونا أولاً نتفق على أن المال هو ظاهرة اجتماعية ترتبط بمجتمع معين، وإذا كانت المجتمعات البشرية قد أنتجت عبر تاريخها العديد من أشكال الأموال، فإن ما يميزها كلها هو اعتبارها مكوّناً اجتماعياً عاماً ووسيلة للدفع تؤطرها الملكية الاسمية.

أي أنه وبكلمة واحدة يمكننا القول إن أي شكل من أشكال المال، كما هي الحال مع جميع الظواهر الاجتماعية الأخرى، يعتمد نجاحه في المقام الأول على قبول المجتمع.

والقبول الاجتماعي لا ينطوي هنا على رضا وموافقة كل فرد من أفراد المجتمع، بل هي رغبة في مواكبة ذلك، تستند إلى قرارات وأحكام الهيئات صاحبة السلطة والتفويض، التي تمثلها في المجتمعات الحديثة، البنوك المركزية.

وهكذا يعتمد نجاح العُملة المشفرة بالدرجة الأولى على أن يتم قبولها في جميع أنحاء المجتمع، وأن يتم الوثوق بها باعتبارها مخزوناً ثابتاً للأصول السائلة، وشكلاً عاماً من أشكال القوة الشرائية.

فهل تستطيع العُملات الرقمية المشفرة استيفاء هذين الشرطين الأساسيين؟

بالنسبة للشرط الأول، نجد أنه في الوقت الحاضر يتطلب القبول العام في المجتمعات الوطنية أو الدولية الحديثة إذناً من السلطات المركزية، فالأنظمة المصرفية هي التي تصدر الأموال وتسعى إلى الحفاظ على قيمة ثابتة لها، وهي التي تُخضعها للحقوق والالتزامات، أما العُملات الرقمية المشفرة فهي تسعى إلى لبناء منظومة خارج هذا الإطار، بل تسعى إلى تجاوز الأنظمة المصرفية وإخراجها كلياً من الصورة.

فجوهر العُملات الرقمية المشفرة هو نظام إلكتروني للبيع والشراء، من نظير إلى نظير، لا يتطلب الوساطة أو التدخل من أي مؤسسة مالية أو وكالة أو أي جهة أخرى، وهنا يكمن التحدي الأكبر الذي تواجهه هذه العُملات.

أما في ما يخص الشرط الثاني، الذي يتعلق بالقيمة الشرائية الثابتة، فيجب القول إن هذه القيمة تستند كلياً إلى ثقة المجتمع، ولكي تتحقق هذه الثقة فلابد من وضع الأموال في نوع معين من الأشياء التي لديها القدرة على غرس هذه الثقة.

إن كل ما سبق يقودنا إلى نتيجة مفادها أن العوامل التي تحكم مستقبل هذه العُملات هي تلك التي تتعلق بمنظور الحكومات أولاً، وبالسياق التاريخي الذي تطوّرت فيه الأنظمة النقدية ثانياً، ناهيك عن عامل آخر قد يغفل عنه البعض، على الرغم من أهميته الكبيرة، ألا وهو ازدياد اهتمام الناس بالجوانب الإيجابية للعُملات الرقمية المشفرة دون النظر إلى النوايا الحقيقية لمُنشئيها.

والحقيقة الجليّة هنا هي أن السلطات السيادية ستبقى ركيزة ثابتة تحظى بثقة المجتمع المطلقة من ناحية إدارة النظم المالية وإصدار الأموال المستقرة، ولذا فإن العملات الرقمية للبنوك المركزية هي فكرة آن أوانها، ليس فقط لأنها تعزف على منوال التقنيات والعلوم المستقبلية شأنها شأن العُملات الرقمية المشفرة، بل لأنها تحتفظ بالسمات الأساسية للعملة الناجحة كالاستقرار وتوافر السيولة والمحاسبة والنزاهة، هذه السمات التي لا يمكن أن يوفرها سوى البنك المركزي.

وبما أن المستقبل سينضوي حتماً على مزيج واسع من العُملات الرقمية، المركزية منها واللامركزية، التي ستتعايش بدورها مع العُملات التقليدية والأصول المادية الأخرى، نجد أن العُملات الرقمية للبنوك المركزية، وإذا ما تم تصميمها بشكل صحيح، ستقدم شكلاً جديداً تماماً من أشكال المال في العصر الرقمي، ونظاماً عالمياً للدفع يكون عالي الكفاءة ولا محدود الوصول، وله من القوة والثبات ما يمكّنه من مجابهة جميع التحوّلات.

مؤسس سهيل للحلول الذكية

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر