مساحة ود

الجذور

أمل المنشاوي

نكبر ويقوى العود ويشتد، فتطلقنا أياديهم للحياة، مُحملين بأمنياتهم ونصائحهم، وحصاد سنين محفور بدواخلنا تأديباً وتعليماً وتمسكاً بالدين والأخلاق.

ترقبنا عيونهم وقلوبهم، وإن امتد الطريق، وتحمينا قيمهم التي زرعوها فينا جذوراً تمتد وتتشعب وتتشبث بالأرض كلما اتسعت الخُطا أو ضلت الخطوات.

تصاحبنا دعواتهم لتصد عنا وتدافع ببسالة المحارب القديم في الأوقات العصيبات، وتقفز صورهم وثقتهم الممنوحة أمامنا لتواجه معنا التفاهات، وتصحح الأخطاء والحماقات، وتعيدنا برفق إلى جادة الطريق.

نتكئ عليهم في المحن، ونلوذ ببراح صدورهم حين تضيق صدورنا، وتغتم ونعرّي ضعفنا أمامهم، بلا حرج أو تحسب لندم.

نشتاق خبزهم وقهوتهم ودفئهم، ونردد دون وعي عباراتهم وأمثالهم.

تتساقط مع طول الرحلة أحداث ومواقف كُثر، وتبقى ذكرياتنا في كنفهم الأجمل والأغلى على نفوسنا، والأقرب لذاكرتنا والعصية على النسيان.

تطاردنا رائحة طعامهم، وعطرهم، وتعلق في أرواحنا وصفاتهم وشكل موائدهم، ومواسم أعيادهم، وبهجة استقبالهم.

تتحول ملامحنا مع الزمن لنشبههم، ونتشبه بعاداتهم، وطقوس أيامهم، فلا ندري هل نحن امتداد لهم أم صور متطابقة منهم.

نحب من يحبهم، ونصل ودهم، ونتمسح برضاهم، ونواصل به المسير دون خوف أو قلق وإن طال الغياب.

يفعل الدهر بهم أفعاله، فتضعف قواهم ويرسم الزمان خطوطه بلا هوادة أو تمهل على جباههم، فتتوجع قلوبنا وتعتصر حباً وحنواً وإشفاقاً.

نتحول مع الوقت آباءً لهم، ونتبادل معهم أدواراً كثيرة إلا إحساسنا بالأمان والطمأنينة يظل ملكاً خاصاً بهم وحدهم دون غيرهم.

يمرضون فتنخلع قلوبنا هلعاً وخوفاً عليهم، وندعو لهم الخالق أن يحميهم ويبارك في أعمارهم رأفة بنا.

يرحلون فنشعر بأول هزيمة حقيقية في مشوارنا، وتنكسر فينا أشياء لا نعرفها، وتفقد حياتنا بهجتها الخالصة، ونفزع كثيراً من حقيقة الغياب الأبدي، وبأننا صرنا وحدنا.

نرى بعدهم شكلاً مختلفاً للناس والأشياء من حولنا، ويهدأ الشغف ويتراجع الإقبال، وكأن الحياة تُعدنا للدور القدري العظيم ذاته.

جذورنا، آباؤنا وأمهاتنا وخالاتنا وعماتنا، ومحيط أسرتنا القريب، هذي الوجوه التي علمتنا فن الحياة، والوقوف مستقيمي العود مهما اشتدت العواصف.

جذورنا، تلك الأيادي التي ترسم الأخلاق نقشاً في عقولنا، وتكتب أحرازاً من حب الخير في قلوبنا، وتعلمنا بالفعل والقول أن ما ينفع الناس يبقى في الأرض، وما دونه زبداً ذاهباً.

جذورنا، تلك القلوب الحانية التي تسع العالم حباً وتفهماً وتقبلاً للأعذار إن غبنا أو شغلتنا الأيام، ذاك الأصل الذي يحفظ هويتنا ويشد عضدنا ويحمينا مهما اشتدت الفتن، بهم نتقوى، ومعهم تتأكد خيرية الحياة وسلامها.

• جذورنا، آباؤنا وأمهاتنا وخالاتنا وعماتنا، ومحيط أسرتنا القريب، هذي الوجوه التي علمتنا فن الحياة.

@amalalmenshawi

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر