5 دقائق

المناخ المظلوم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

استخلف الله تعالى الإنسان هذا الكوكب الأرضي لعمارته ليكون صالحاً للبشرية تستفيد منه ما يصلح حياتها، وتؤدي واجب الاستخلاف من معرفة الله تعالى بالإيمان وعبادته كما شرع على رُسله، وجعل الله تعالى هذا الكوكب أمانة في عنق الآدميين خاصة لأنهم أهل للتكليف بما منحهم من عقل واختيار كما قال جل شأنه {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالأمانة في الآية الكريمة أمانة التكليف «افعل ولا تفعل»، ومنها واجب العبادة التي هي من خصائص المكلفين – الآدميين – وممّا يدخل في ذلك حفظ كوكب الأرض الذي يعيش عليه الإنسان والطير والدواب والزواحف وما خلق الله من جماد وبحار وأنهار، فإن كل ذلك له حق أن يعيش على هذه الأرض وهي صالحة للعيش، ولذلك نُهيَ الإنسان بالذات أن يفسدها بما يخل بالانتفاع بها، فخاطبه ربنا خطاباً مباشراً بهذا الخصوص قائلاً له: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} مرتين في كتابه المبين، والإفساد ضد الإصلاح، وكل ما يعد تعكيراً لجوها أو تدميراً لتربتها أو خراباً لعمرانها أو تلويثاً لبيئتها ومائها هو فساد عريض منهي عنه شرعاً وعقلاً، وهو عقوق للأرض التي تكوَّن الإنسان والحيوان من ترابها، وسيعود تراباً فيها كذلك، وسيبعث منها أيضاً كما قال ربنا جلّ شأنه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}، وإذا كان كثير من البشر لا يستجيب لنداء الله ويذعن لخطابه وتكليفه، فليستجب لنداء عقله ووازع فطرته في أن يكون وفياً لهذه الأرض التي تكوّن منها فيعمل فيها بما يبقي صلاحيتها لنفسه ومن يأتي من بعده، فإن لم يفعل ذلك كان شقِياً، وكان الواجب على غيره من أولي الأيْدِ والقوة أن يأطروه على الحق أطرا، فرداً كان أم مجتمعاً أم كياناً سياسياً؛ لأن الضرر الذي يترتب على إفساده لن يقتصر عليه، وهذا ما تتداعى الأمم عليه الآن بما يسمى بقمم المناخ، أي إصلاح المناخ، والذي حظيت دولتنا الرائدة في الحفاظ على البيئة والمناخ باستضافة «قمة 2023»، وذلك بعد انفراط عقد الفساد في الأرض بما تفعله المصانع الضخمة في الدول الكبرى على وجه الخصوص من تلويث للهواء والبيئة، فتحاول في تشريعاتها ما أفسد العطار، وهو عمل مطلوب عاجلاً غير آجل، من كل إنسان، غير أن الواجب قبل التشريعات الدولية والقوانين الملزمة هو أن يحاسب كل امرئ نفسه، ويتقي ربّه في الحفاظ على هذه الأرض التي هي مهادنا ومصدر سعادتنا، يفعل ذلك طاعة لربّه، واهتداءً بشرعنا الشريف الذي حث على إصلاحها، ونهى عن الإفساد فيها، وشرع أحكامها بأحاديث كثيرة، فقد نهت السنة عن التخلي في الطرقات أو تحت الشجار المثمرة، ونهت عن تلويث الماء أو الإسراف في استعماله، ونهت عن إتلاف الحيوان غير المؤذي عبثاً من غير حاجة إليه، ونهت عن تغيير منار الأرض، وأوجبت حماية الحِمى، بل إن أول تشريع عرفته البشرية تشريعها الحِمى الذي يبقي الأرض صالحة ليأكل من خيراتها الإنسان والحيوان ويعيش فيها بأمان.. إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المثقف، فضلاً عن طالب العلم.

بل أبان الشرع الشريف أن جميع الأحياء تتعايش وتتحاب إذا لم يسع الإنسان لإفساد الأرض كما في حديث الترمذي وغيره «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»، لأن العلم الشرعي يعرف المرء حق من يعيش حوله في الحياة، فلا يعتدي عليه، وهكذا ينبغي أن يكون كل إنسان يعرف مسؤوليته نحو غيره من إنسان وحيوان وجماد، وإلا كان مفسداً في الأرض وإن كان يظن نفسه مصلحاً، فإنه قد يظن أن ما يصنعه فيه منفعة للإنسان، من غير نظر إلى الجوانب السلبية التي يجب أن لا تكون في الصناعة، وهذا ما أشار إليه ربنا سبحانه بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }، فعلى من يدّعي نفع الإنسان بمنتجاته أن يراعي الجوانب السلبية للبيئة والإنسان فلا يقع فيها، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة كما هو متفق عليه بين العقلاء.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

• إن الواجب قبل التشريعات الدولية والقوانين الملزمة هو أن يحاسب كل امرئ نفسه.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر