٥ دقائق

زوبعة البتكوين

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

منذ ظهور العملات المشفرة، وعلى رأسها البتكوين، عام 2008، والناس حيارى من أمرها، فمنهم القابل المروج، ومنهم المانع المحذر، والقابلون؛ منهم الرابح، والآخر خاسر، والمسلمون ليسوا أسعد حظاً من غيرهم، بل هم أشد تحيراً، لاحتكامهم لشريعتهم الغراء التي تأمر بالكسب الطيب، وتحرّم عليهم الكسب الخبيث، فإنهم لم يجدوا من فقهائهم، الذين أمروا بالرجوع إليهم عند حلول النوازل، قولاً فصلاً يشفي العليل ويروي الغليل، بل يسمعون أقوالاً مضطربة بين التحليل التحريم، ولايزالون مختلفين، وسيظل الناس حيارى حتى يجدوا بياناً شافياً؛ لشدة تعقيد هذه النازلة الدائرة بين النافع المزعوم والضرر المعلوم.

وقد كان لدائرة الشؤون الإسلامية قصب السبق في دراستها، علَّها تخرج ببيان للناس، فبحثتْها في الدورة الرابعة لمنتدى فقه الاقتصاد الإسلامي عام 2018، وفي مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي الدورة 24 التي استضافتها إمارة دبي عام 2019، غير أن البيان الشافي لم يتم في كليهما، بل خرجت الندوة كما خرج المؤتمر بتوصيات تطلب مزيد البحث في هذه النازلة الاجتهادية الشديدة التعقيد.

وفي الأمس القريب، عقد مجمع الفقه الإسلامي بمحافظة جدة ندوة متخصصة لبحثها برعاية دائرة الشؤون الإسلامية ومشاركتها، وقد اجتمع فيها نحو خمسين من متخصصي فقهاء الشريعة والاقتصاد، وكُتبت أبحاث عدة صورت وحللت، وقد كان لكل باحث ومعقب ومعلق رأيه فيها، فأخذ القول فيها مناحي متفرقة لشدة تعقيدها، وجوانب إيجابيتها مع معارضة أضرارها.

والحقُّ أننا وإن كنا نعيش في عصر التكنولوجيا الرقمية، وتقنية البلوك تشين الشديدة الضبط، وفي هذا العالم الذي يسير نحو العولمة الخارقة للحواجز، وفي رحابة الفضاء الرقمي الذي لا تحجبه حواجز البلدان ومتفرقات السياسة؛ إلا أن ذلك لا يبيح لشطار البرمجيات والتقنية ومالكي النظريات الخوارزمية أن يتحكموا في اقتصاد العالم، أو يسلبوا أموال الناس، فإن العملة والنقد من الأمور السيادية التي هي بيد السلطات الرسمية، وليست كلأً مباحاً لكل الناس.

فلقد اتفق فقهاء المسلمين قديماً على أن ضرب النقود وسَكِّها من حق ولي الأمر وحده، لأنه المعنيُّ بحماية مصالح الناس وسياسة دنياهم بمقتضى الشرع الشريف، وهو ما لا يخالف فيه رجال الاقتصاد العالمي، ولذلك نجد أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حذرا من هذه العملات المشفرة، وبينا أنها تؤدي إلى زعزعة استقرار تدفقات رأس المال، وبالتالي قد تؤدي إلى تهديد الاستقرار المالي حول العالم، وهذا التحذير كافٍ ليكون تمهيداً قوياً لمنعها مصلحياً وسياسياً على أقل تقدير.

على أن القول بالمنع ليس غريباً، فلو تأمل المتعاملون بها في تسميتها فقط لأحجموا عنها مباشرة، فإن تسميتها «عملة افتراضية» تقتضي الشك في تسميتها عملة؛ لأن العملة هي التي يجري عليها الاعتماد والتوافق والعمل والقبول، وليس على سبيل الافتراض والتقدير، وكذلك تسميتها عملة رقمية مشفرة أو معمّاة؛ فمقتضاه أنها ليست عملة اصطلاحية، بل هي أرقام فلكية معقدة، لا يستطيع الحصول عليها أو تداولها إلا عباقرة الرياضيات والخوارزميات، والشأن في العملة أن تكون متناولة لكل أحد حتى تُستوفى الحقوق منها وبها، فالتسمية إذاً في ذاتها ستحيِّر المشرِّع لها قبل المتعامل.

كما أن من شأن العملة النقدية أن تتوافر فيها خصائص لا تنفك عنها، وهي أن تكون مقياساً للقيمة، ووسيطاً في التبادل، وأداةً للادخار، وتلقى قبولاً عاماً بين الناس، وهذه العملات ليس فيها شيء من ذلك، فلا تسمى نقداً؛ لأن الاصطلاح على جعلها نقداً يُقصد به أن يكون اصطلاحاً عاماً، وتلقى قبولاً عاماً، وليس مختصاً بطائفة. ولا تصلح أن تكون وسيطاً للتبادل؛ لأنها لا تقبل كثمن ومثمن إلا ممن يدخل في شبكتها فقط.

ناهيك عن الشروط الشرعية والجعلية على ما يُتخذ ويسمى نقداً، فإن هذه العملات تفقدها جميعاً.

فهي ليست صادرة عن سلطة سيادية لتحميها ويُحتكم إليها.

ولا لها غطاءٌ نقدي كما هو الأصل، أو سياسي، أو اقتصادي، أو عسكري، كما هو الواقع الآن، حتى تكون معبرة عنه.

وليس لها قانون ينظم إصدارها ويحميها، حتى يحتكم ويحاكم إليه.

ولا يعترف بها صندوق النقد الدولي ولا البنك الدولي، اللذان يعتبران المنظمين الدوليين للسياسة الاقتصادية والنقدية للدول في العالم.

ومع ذلك فإننا لازلنا ننتظر القول الفصل من مجمع الفقه الإسلامي، الذي يعد مرجعاً عالمياً لبحث القضايا المستجدة، ولعل ذلك يكون قريباً في دورته الخامسة والعشرين، إن شاء الله تعالى.

* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر