٥ دقائق

الأسواق في الإسلام

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

شريعتنا الإسلامية شريعة دينية متعلقة بعبادة الله وحده تقرباً إليه، حباً له على ما أولانا من جلائل النعم، وامتثالاً لأوامره واجتناباً لنواهيه، وطمعاً فيما أعده الله تعالى من الثواب، وحذراً مما رتب على مخالفته من العقاب، وهي مع ذلك دنيوية تتعلق بمصالح العباد، وما ينفع البلاد، وكلا الجانبين في توازن تام، كما يشير لذلك قول الحق جل شأنه ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، وهو الحال الذي كان عليه أنبياء الله ورسله، عليهم الصلاة والسلام، فإنهم جاؤوا لهداية العباد لما يبتغيه ربهم منهم في دينهم ودنياهم، فدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى وأداء ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، ومن ذلك أوامر التعاملات المادية ونواهيها، فما من نبي ولا رسول إلا وعالج قومه في ذلك كمعالجته للتوحيد والعبادة، ذلك أن الناس لابد لهم من التعامل المادي بيعاً وشراء وصناعة وزراعة وغير ذلك، ومثل هذه الأمور لابد لها من ضوابط حتى لا يتظالم الناس ولا يتغابنون، وموازين هذه الضوابط هي بيد الأنبياء والمرسلين.

وشريعتنا الإسلامية أوفى الشرائع في جوانب التعاملات المادية كوفائها في جوانب العقائد والعبادات، فما تركت باباً من أبواب التعاملات المادية قديمة كانت أو حديثة إلا وأوفت أحكامها وما يصلحها وما يفسدها، فأكبر آية في القرآن الكريم احتوتها صفحة كاملة هي آية المداينة، فضلاً عن الآيات الفردية في أحكام التجارة والربا والقرض والقضاء والعسر واليسر والكيل والوزن والكفالة والإجارة وقسمة التركات.. كل ذلك أحكام تفصيلية يقلُّ فيها الاختلاف، بخلافِ كثيرٍ من العبادات التي كانت آياتها مجملة في الغالب ليكون للاجتهاد في مدلولها مجال واسع.

وكم بينت السنة المطهرة أحكام المعاملات المادية؟! فلم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وبينتها بمنطوق النص أو مفهومه، حتى قال عليه الصلاة والسلام: «قد تركتكم على البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».

وقد كان من اهتمام الإسلام بالمعاملات المادية اهتمامُه بالأسواق التي تُعرض فيها المنتجات والمبيعات وتعقد فيها الصفقات، وقد كانت العرب تقيمها في مواسم محددة في عكاظ ومِجَنَّة وذي المجاز وبدر وغيرها، فأقرها الإسلام، وتعامل معها كواقع نافع للناس ينبغي الحرص عليه، كما ترجم البخاري في صحيحه «باب الأسواق التي كانت في الجاهلية فتبايع الناس بها في الإسلام».

وكان من فعله، عليه الصلاة والسلام، لما قدم المدينة، إنشاءُ سوق للمسلمين مستقلة عن أسواق اليهود التي يُتعامل فيها بالربا، وليكون للمسلمين استقلال، كما روى الطبراني أن رجلاً جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: «إني رأيت موضعاً للسوق أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى، فقام معه حتى جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركض برجله، وقال: «نِعم سوقكم هذا، فلا يُنقص ولا يُضربنَّ عليكم خراج».

ورواه ابن ماجه بلفظ: ذهب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى سوق النبيط، فنظر إليه فقال: ليس هذا لكم بسوق، ثم رجع إلى هذا السوق فطاف فيه، ثم قال: «هذا سوقكم، فلا ينتقصن ولا يضرب عليه خراج».

وها هي دولة الإمارات العربية المتحدة ممثلة في إمارة دبي، أقامت سوقاً عالمية تعد الأولى في دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية، جمعت فيها حضارات العالم، وما وصل إليه من تقدم صناعي وتكنولوجي وثقافي تحت سقف «إكسبو» الذي أبهر العالم في تنظيمه ورُقِيِّه، فاجتمع العالم على المصالح المشتركة التي تنفع الناس، فيشتغلون بهذه المصالح بعيداً عن تجارة الحروب والدمار، وما يتبع ذلك من تمزق وبغضاء.

إن إقامة هذه السوق الضخمة والعالمية التي أنفقت إمارة دبي عليها الكثير؛ لتبرهن أن هذه الدولة تبني استراتيجيتها على المصالح والمنافع الخاصة والعامة، فدبيٌّ التي رضعت لِبان التجارة منذ نشأتها على يد المغفور له راشد بن سعيد، رحمه الله تعالى، ها هي تشبُّ في هذا المنهج، ولكن بتوسع أكبر وطموح لا يحد، لذلك لم تستأثر بنجاحها التجاري حتى أحبت نفع الغير، ودعت العالم كله للاستفادة من تجربتها الرائدة في نفع البلاد والعباد، وسيظل «إكسبو» المعلم العالمي البارز والشاهد على رقي دولة الإمارات وقيادتها الرشيدة.

أدام الله عزها، وأتم عليها نعمه، وزادها من فضله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

تويتر