مساحة ود

الطوفان

أمل المنشاوي

كنا نتقاسم الخبز الطازج، وأطباق الحلوى، ونتبادل السؤال والهدايا على بساطتها ونتشارك الفرح والدموع.

كنا نشرع أبوابنا أوقات الصيف ونلعب معاً ونتبادل الضحكات والقفشات ونسهر حتى يضج بنا الليل.

كانت الأعياد مناسبات عظيمة لتجديد الود وتأكيد روابط الحب الخالص دون تكلف أو تملق أو رياء.

لم يكن هناك حسد أو تباهٍ بسفر أو حفلات أو طعام أو تعالٍ، فالجميع بيت واحد وشارع واحد وجار محب وصديق وفيّ، لم تعننا أبداً ألقاب أو مناصب ولم تثننا أبداً الخلافات عن إلقاء السلام أو الفزعة في كل مصاب ومشاركة الأفراح من القلب حتى وإن كان يحمل عتاباً.

هكذا كنا وكانت مجتمعاتنا العربية قبل طوفان الهواتف وتطبيقات التباعد التي أخذتنا من أنفسنا وممن حولنا.

رويداً رويداً تخلينا دون وعي عن حميمة اللقاء وحضن الاشتياق الذي يرسخ روابطنا ويقوي مناعتنا ويشعرنا بأن لنا سنداً وعزوة وجيراناً وأصدقاء محبين، واكتفينا بإرسال الرسائل عبر جهاز أصم بلا قلب فوصلت الرسالة باردة لا لون فيها ولا إحساس.

كيف ومتى سمحنا لهذا التطور أن يسحبنا بعيداً عن دفء المشاعر وأوقات المتعة الخالصة وجلسات السهر بكل تفاصيلها المحفورة في أعمارنا كنقش فرعوني عصي على الطمس أو النسيان.

أكثر ما يفزعني جيل الأبناء الذين لم يكبروا ومعهم ذكريات مشابهة ترسخ جذورهم وتبقي على انتمائهم وتغذي إنسانيتهم، فالبديل دوماً كان عالماً افتراضياً غير ملموس كبروا وشبوا فيه بعيداً عن الألفة وحميمة اللمّة وأُنس الزيارة وبهجة استقبال الضيوف وأفراح الجيران؛ وغيرها من التفاصيل التي لم نتمسك بها فغادرتنا دون وداع.

تقول صديقتي: «قررنا أنا وزوجي إغلاق هواتف العمل بمجرد دخول البيت، وعدم مطالعة أي من تطبيقات التواصل الاجتماعي إلا بين التاسعة والنصف والعاشرة مساء، بعد أن لاحظنا أن ابني ذا العامين يفتقدنا ويحاول نزع الهواتف من أيدينا كل ليلة ويبكي».

وتؤكد «أدركنا أنه لم يفتنا الكثير، بل أصبح عندنا متسع من الوقت لكثير من الأشياء الممتعة».

فهلا حاولنا وجربنا أيضاً، فنحن وأبناؤنا نستحق حياة حقيقية دافئة، نستحق متعة النظر في عيون أحبتنا والشد على أياديهم والجلوس رفقة صديق أو جار أو قريب نتشاطر معه مساحات الود وتقلبات الأحوال.

نعم جميعنا يستحق حياة هانئة هادئة ولو لسويعات قليلة كل يوم.. بعيداً عن الطوفان.

@amalalmenshawi

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.  
 

تويتر