٥ دقائق

العصر الرقمي وواقع الفتوى

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

عصرُنا هذا هو عصر التكنولوجيا الرقمية، في كل تفاصيل الحياة، المادية والعلمية والإدارية وغيرها، والفتوى جزءٌ من هذه الحياة؛ لأنها تتعلق بتفاصيل حياة المسلم مع ربه ودينه ودنياه وأسرته ومجتمعه، فلا يخلو له حال من حكم شرعي؛ وجوباً أو ندباً أو حرمةً أو كراهةً أو إباحةً، أو حكم وضعي؛ سبباً أو شرطاً أو صحةً أو فساداً، وهذا هو مجال الفتوى التي أناطها الله تعالى بأهل الذكر، إن لم يكن مكتفياً ذاتياً بعلمه، ليكون عمله وفق هدىً من الله تعالى، وتكون حياته ومماته لله رب العالمين، كما كلفه ربه سبحانه وخلقه لذلك، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، فكان على مؤسسات الفتوى ورجال الفتوى مسؤوليةٌ كبيرة في مسايرة العصر بمعطياته التي يعيشها الناس، في التعامل مع التكنولوجيا الرقمية التي هي واقع الناس، لترتفع مسؤولية مؤسسات الفتوى ورجال العلم المفتين؛ فإن الله تعالى أوجب على العلماء بيان أحكامه الشرعية التفصيلية لعباده، وأخذ عليهم الميثاق بذلك، وما أوجب الله تعالى على الناس أن يعلموا، حتى أوجب على العلماء أن يعلموا ويبينوا، وواجب البيان يكون في كل زمان بحسبه.

وقد كان الناس في الزمان الأول، يجيء المستفتون إلى المفتي بذواتهم، ولعلهم يرحلون رحلات شاقةً، أما اليوم فقد جعل العالمُ الرقمي العالمَ كله في غرفة واحدة، يعيش فيها المرء مع عالمه بضغطة زر، فيسمع ويرى، فيجب أن تكون الفتوى حاضرة في هذا العالم، ليتمكن من أداء مهمته التي وكلت إليه من ربنا، سبحانه وتعالى، ومن تكليف ولاة الأمر الذين يسوسون أحوال الناس ودنياهم بالدين والشرع القويم.

وقد أفرز وباء كورونا الجاثم على العالم منذ نحو عامين تفاعلاً كبيراً للرقمَنة التي أدت دورها الكامل في تسيير الحياة، فخففت كثيراً من الأعباء، واستمرت الحياة ولم تتوقف، بفضل الله تعالى على عباده، إذْ خلق لهم هذه التكنولوجيا المتطورة، وعاشها المفتون ومؤسسات الفتوى بكل كفاءة، وبمزيد عطاء وبذل، حتى فاق أداء الإفتاء ما كان عليه حاله قبل الجائحة بكثير، وعلى هذه المؤسسات أن تستمر بهذا الأداء وبهذه الوتيرة وأكثر من ذلك، وأن يزداد نشاطها الرقمي ببرامج متعددة ومتطورة؛ ليتاح لكل أحد في أرجاء العالم أن يسمع شرع الله، وهذا ما فعلناه في إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري، فقد كان الأداء مضاعفاً عما كان عليه في السابق، من واقع معاصرة العالم الرقمي، فأنشأنا منصة إلكترونية للإجابة المباشرة عن الأسئلة النمطية المتكررة، وفتحنا نوافذ الاتصال المختلفة، فتواردت الاستفسارات من كل حدَبٍ وصوب، وانتفع الناس كثيراً، ولايزال العطاء كذلك، وسيتطور أكثر فأكثر مع تطور «السوشيال ميديا» كل يوم إن شاء الله تعالى.

وقد كان لدار الإفتاء المصرية قصَب السبق في كل ذلك، حيث استطاعت أن توظف الرقمنة أحسن توظيف، بكفاءة عالية وتوسع غير محدود، وسخرت إمكاناتها لنفع الناس بالفتوى الرصينة المؤصلة المعتدلة، وأقامت مؤخراً مؤتمراً عالمياً بعنوان «مؤسسات الفتوى في العصر الرقمي - تحديات التصوير وآليات التعاون»، لمواكبة التطور الرقمي وتوظيفه لخدمة الناس في مجال الإفتاء، ودعت «مفاتي» العالم لحضور المؤتمر الذي أبانت فيه عن مشاريع الإفتاء الكثيرة التي تقدمها خدمة للإسلام والمسلمين، وخرج بتوصيات مفيدة كثيرة أيضاً، منها:

توصية بإنشاء وحدة مخصَّصَة للتحول الرقمي، تابعة للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، يكون دورها تقديم الدعم التكنولوجي والرقمي لمؤسسات الفتوى على جميع المستويات المادية والبشرية، والتحسين المستمر للآليات والبرامج الإلكترونية المتعلقة بالفتوى والإفتاء، ومتابعة المستجدات العالمية في هذا الشأن والاستفادة بها.

ومنها دعوته لسائر المستفتين إلى الاستفادة من منصات الإفتاء الإلكترونية التي توفرها المؤسسات الإفتائية كبديل مناسب في ظل هذه الجائحة.

كما خرج بوثيقة التعاون والتكامل الإفتائي، وهي وثيقة قانونية، ستجعل من دور الإفتاء في العالم حلقة واحدة في خدمة الإسلام والمسلمين، بفضل التعاون والتكامل في بيان أحكام الفقه المستجدة، وقضايا الفقه المعاصرة التي تهم العالم، ولاسيما في مجال مكافحة التطرف الغالي أو المنفلت، ليعيش المسلم في وسطية الإسلام السمحة، وبحبوحته الرحبة بفضل هدي الربانيين من أهل العلم المتخصصين تعليماً، والمخصصين أداءً لهذه المهمة التي هي مهمة ورثة الأنبياء.

فنسأل الله تعالى التوفيق والهداية لأقوم طريق.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

تويتر