5 دقائق

وضع الجوائح ووباء «كورونا»

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يعيش العالم أزمة اقتصادية كبرى، بسبب انتشار فيروس «كورونا»، ترتب عليها توقف النشاط الاقتصادي، في كثير من القطاعات الصناعية والسياحية والاستثمارية الخاصة والعامة، فضلاً عن المؤسسات الحكومية؛ ما يستدعي النظر في ترتب آثار العقود المبرمة بين المستثمرين مع الصانعين والمطوِّرين والمقاولين والموردين، والعقود الخدمية التي توقف تطبيقها والاستفادة منها أثناء الحجر الصحي من حجوزات طيران وفنادق وصالات وغير ذلك.

وهنا تكمن المشكلة في أثر تلك العقود، لاسيما مع توجيه الحكومات بضرورة التعامل مع أطراف التعاقد بمرونة كافية؛ من إنظار المعسر، أو تحليله من العقد، وهذا يستدعي النظر الفقهي الاجتهادي لمعالجة هذه الآثار التعاقدية.

وقد بادرت ندوة البركة في عددها 40، برعاية الشيخ صالح كامل (رحمه الله)، قبيل وفاته بأيام، بجعل موضوع الجوائح محور الندوة العالمية التي دعا لها، وتداعى لها علماء الشريعة الإسلامية من مختلف الدول، عبر المنصة الإلكترونية «zoom»، فطرحت عدة محاور منها: الالتزامات الآجلة في عقود المؤسسات المالية والتمويلية وما نتج عنها من تعثر في سداد الديون، وعقود المقاولات والتوريدات وما شابهها من العقود متراخية التنفيذ، وعقود الإجارة، وحجوزات الفنادق والطيران، وخدمات النقل والشحن والتعليم الخاص، ورسوم الخدمات العامة مثل الكهرباء والماء والاتصالات، وعقود العمل في ظل الجائحة ومعالجة آثارها، والاستفادة من الأموال المجنبة في المؤسسات المالية الإسلامية والشركات، وموضوع تعثر إطفاء الصكوك.

وكان بحث إمكانية تطبيق نظرية وضع الجوائح التي سبقت الشريعة الإسلامية إليها، بحثاً جاداً؛ أخذاً بما رواه مسلم من حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، «أمر بوضع الجوائح»، وهي جمع جائحة، أصلها ما يحصل للزرع من آفة فتتلفه، فلعل من اشترى الثمر قبل حصاده أن يخسر ما اشتراه، كما وضحه حديث أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع ثمر التمر حتى يزهو، ثم قال: «أرأيتَ إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك؟»، وما اقتضته قواعد الشريعة العامة من رفع الضرر، وتحقيق مقاصدها في حفظ الحقوق، فكانت أصلاً لنظرية وضع الجوائح، وما يسميه فقهاء القانون «الظروف الطارئة أو القوة القاهرة».

وبعد طرح أكاديمي راقٍ، ونقاش حر مفيد، خرجت الندوة المباركة ببيان ختامي تضمن ما تقتضيه الشريعة الإسلامية من أحكام تناسب وضع هذه الجائحة بتفصيلات كثيرة، من أهمها أنه إذا كان الحق قد ترتب على المتعامل باستيفاء المنفعة فأصابه إعسار فيجب إنظاره، وإن كان موسراً فيجب عليه الوفاء، وأن النظر في تعديل الحقوق والالتزامات العقدية ممكن، سواء أكانت عقود مقاولات أم عقود توريد أم ما شابهها من عقود متراخية التنفيذ، وذلك بصورة توزع القدر المتجاوز فيه من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز لأطراف العقد فسخه في جميع العقود التي لم يتم تنفيذها، إذا كان الفسخ أصلحَ للمتعهد أو الملتزم، مع تعويض عادل للملتزم له.

وأما موضوع حجوزات الطيران والفنادق والصالات والتعليم ونحوها، فما كان قد تمت الاستفادة منها فيجب الوفاء بها، على وفق ما تقرر في الموضوع الأول من التفرقة بين الموسر والمعسر، وما لم يتم فيعدل إلى التراضي بين تأجيل العقود حتى تنتهي الأزمة، أو فسخها بحسب ما تقتضيه مصلحة الجميع، مع وجوب رد مبالغ الحجز لعدم استحقاقها.

وأما التعليم فيفرق فيه بين ما تم الاستيفاء منه، فيجب الوفاء برسومه، وما لم يتم أو حدث تطور في أدائه بوسائل التقنية المرئية، فكانت التكلفة معه أقل مما لو كان حضورياً، فتعدل الالتزامات بما تقتضيه العدالة بين المستفيد والمؤسسة.

وأما عقود العمل وما طرأ لها من تعطل مزاولة، فيفرق بين ما كان قد باشره وما توقف عنه، بما تقتضيه الأنظمة المرعية في الدول، ومراعاة مصلحة المؤسسات والعاملين على حد سواء..

في تفصيلات يطول شرحها، وينبغي على الجهات التشريعية والقضائية الاستفادة من مخرجات الندوة هذه، وما سبقها من قرارات مجمعية بخصوص الظروف الطارئة، وما سيلحقها من بحث فقهي وقانوني يؤصل لمثل هذه الظروف الاستثنائية، حتى تكون الأمور واضحة المعالم سهلة التطبيق.

وبالله التوفيق.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر