5 دقائق

شهر رمضان شهر الفزع إلى الرحيم الرحمن

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

هلَّ علينا شهر رمضان هذا العام - فمرحباً به ونعم المجيء جاء – هلَّ علينا في وقت عصيب بسبب اجتياح فيروس كوفيد-19 كورونا العالمَ كله، وعجز هذا العالم الكبير المترامي الأطراف، البالغ الذروة في الصناعة والتكنولوجيا عن مدافعته بالوسائل المادية المتاحة لديه، فقد مخَر الأجواء، واخترق الحدود، ووصل إلى حيث يشاء، لا يصدُّه عن طموحه صاد، فبقي العالم حائراً في أمره من أين أتَى وكيف ومتى يرفع؟!

- لنجعل هذا الشهر نقطة تحول من حال الغفلة التي كنا فيها إلى حال الحضور والمراقبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى.

ونحن معاشر المسلمين الذين نعرف ربنا بتوحيده وعبادته، وبأسمائه وصفاته، وننزهه عن الحوادث ومشابهة المخلوقات، نحن الذين لا يعبده كما شرع وكما يحب غيرُنا، نحن الذين نتميز بين الأمم بهذا الشهر الكريم الذي خصنا به عن غيرنا، نحن علينا واجباتٌ أكثر من غيرنا، وأهم واجباتنا في هذا الحال العصيب أن نصدق في الالتجاء إلى بارئنا، فإنه ما ابتلانا ونحن عبيده إلا ليسمع نجوانا ونحيبنا بين يديه، فلنُرِه من أنفسنا خيراً وقد فتح لنا باب التوبة، وباب الإقبال، وباب الدعاء، وباب الانكسار، وباب التواصل، وباب التراحم، وباب المواساة، وباب المعروف.. وهذه كلها موجبات لرحمته سبحانه بنا، ولعل إقبالنا عليه من هذه الأبواب كلها يكون سبباً لرحمة من لم يعرفه ومن أعرض عنه، فلعله يقول: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»، وإن لم يفعل سبحانه فيكون معذرة لنا عنده أننا قد رجعنا قبل أن يغلق باب التوبة، وعندئذ نصبر على مراده سبحانه، فإن لم يكن به غضب علينا فلا نبالي، وله سبحانه العُتبى حتى يرضى.هلَّ هذا الشهر الكريم وهو شهر تجلِّي الرحيم الرحمن على عباده بالعفو والغفران، فيتعرف الناس إلى ربهم الذي أرسله وهو الذي يكشفه، يتعرفون إليه بالإخبات والإنابة والرجوع إلى حقيقة وضعهم مع خالقهم من الفقر والتذلل، يرجعون إليه ليقولوا بألسنة مقالهم وألسنة أحوالهم: إننا عبيدك الفقراء، وأنت الغني عن عذابنا، ويعرفوا أن لهم رباً إليه يَصمدون عند النوائب، وبه يتعلَّقون عند الشدائد، جميع خلقه كذلك، من كان يعرفه في السراء، أو لا يعرفه إلا في الضراء، وهو سبحانه الولي الكريم الذي يعلم ضعف خلقه، ولا يغلق بابه عمن لم يعرفه إلا عند الضراء، فكيف بمن عرفه في الرخاء والسراء.

إن حلول هذا الشهر بهذا الوضع الذي صُددنا فيه عن بيوته وشأنها أن ترفع ويذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فلم يَعُد يذكر فيها اسمه إلا بشهادة التوحيد، ليعلِّمنا أن نخلص في العبادة له وحده، فمن كان لديه الحنان إلى المساجد فلا يكاد يصلي ويعرف الدعاء إلا فيها، فليعلم أنه سبحانه معبود في البيوت والدور والمكاتب كما هو معبود في المساجد، وأن إغلاقها لا يعني أن لا نصلى الفرائض والنوافل والتراويح وقراءة القرآن في بيوتنا، فإن لبيوتنا حقاً أن تحُلَّ فيها بركة الصلاة والقراءة والذكر والدعاء، فلنعدَّ هذا الحال الذي حرمنا فيه أفضل ما نحب في شهر رمضان أسلوباً آخر مما يحبه ربنا منا، وهو الخلوة معه والإخلاص له والصدق في الإنابة إليه.

ولنجعل هذا الشهر نقطة تحول من حال الغفلة التي كنا فيها إلى حال الحضور والمراقبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى، نجعله مراداً لله تعالى، فإنه لا يكون في خلقه وملكوته إلا ما يشاء ويختار، وهو يعلم حبنا لبيوته، وقد أراد منا أن لا نكون فيها في أحب الأزمنة إليه، فلنجعل مراده مرضيا عندنا مع بالغ أسفنا له، وكامل تضرعنا إليه، أن لا يحرمنا ما عودنا من الخير.

نجعله شهر المحاسبة لأنفسنا فلعلنا نعرف كيف أتى إلينا هذا البلاء من حيث لا نحتسب، فلعلنا نعرف سر المؤاخذة فنجتنبها في مستقبل حياتنا حتى لا تعود لنا سُنَّة المؤاخذة التي أُتينا من قِبلها، لأننا نعلم أنه لا يقع بلاء إلا بذنب ولا يُرفع إلا بتوبة.

هذا هو مفهوم الشهر الكريم عندنا معاشر المسلمين، فواجبنا فيه غير ما على الناس أجمعين، فلنُر الله من أنفسنا خيراً، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر