5 دقائق

السَّلوة في العُزلة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

مع ما نعيشه هذه الأسابيع المؤلمة بوقعها الوبائي المؤثر على كل شيء في حياتنا الخاصة والعامة؛ فإنه يمكن أن نجعل من هذه العزلة فضاءً رحباً للاستفادة في حياتنا، ونجعلها غنيمة نعوّض بها ما فاتنا في معترك العمل وزحمة اللقاءات والاجتماعات، وذلك بأن نعلم أولاً أن هذه العزلة كتبت علينا، فلم يكن لنا فيها يد ولا اختيار، وما كتبه الله لعباده فإن عاقبته تكون خيراً في الدنيا والآخرة إنْ هو تعامل مع المكتوب برضا وتسليم، فقد ورد في الحديث «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له».

«يمكن أن نجعل من هذه العزلة فضاءً رحباً للاستفادة في حياتنا، ونجعلها غنيمة نعوّض بها ما فاتنا في معترك العمل وزحمة اللقاءات والاجتماعات»

والمعنى أنه في كلا الحالين رابح الأجر، فهو إما شاكر وسيجزي الله الشاكرين، وإما صابر وسينال أجر الصابرين بغير حساب، فإن أضاف إلى ذلك الاستفادة في عزلته بكسب عمره فيما ينفعه من العمل الصالح والعلم النافع والإيجابية الحميدة؛ فإنه يكون رابحاً بكل المقاييس.

وليتأسّ المسلم بأن الإسلام قد ندب إلى العزلة أحياناً في مواطن كثيرة، فقد ترجم البخاري في صحيحه بقوله: «بابٌ العزلةُ راحةٌ من خِلاط السوء»، وساق حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال «رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره»، وما أحوجنا في هذا الحال لأن نَدَعَ الناس من شر الوباء، فلا يصل إلينا عن طريقهم ولا يصل إليهم عن طريقنا، وقد كتب الإمام الخَطَّابي كتاباً خاصاً في العزلة، ساق فيه أحاديث كثيرة في فضل العزلة، وذلك في غير الطاعون، فمع الطاعون يكون فضلها أكثر.

ولنتسلّ أيضاً في عزلتنا هذه بأشياء لم نكن نحصل عليها في زمن الاشتغال بالمخالطة، وأهم ما نتسلى به هو العمل المهني عن بُعد الذي كان يصعب على الكثير تطبيقه لولا هذه الضرورة، فعلَّمته ما لم يكن يعلم، فلنعدَّها زيادة خبرة، وإضافة نوعية إلى مهاراتنا، لاسيما مع توفر التقنيات التي تجعل البعيد قريباً، ونشكر الحكومة التي يسّرت لنا سبل إنجاز المهام على أحسن وجه كما لو كنا في المكاتب.

كما نجعل من هذه العزلة بستاناً مثمراً في الحياة الأسرية لزيادة تماسكها، وكمال «الحنِّيَّة» بين أفرادها، فإن الألفة باب المحبة الوسيع، فكم غاب كثير منا عن أسرته بانشغاله بالواجبات المهنية والاجتماعية، حتى لم يدع لأسرته شيئاً يذكر من عمره.

ولنجعل من هذه العزلة وسيلة صالحة للقرب ممّن ابتلانا بها سبحانه، فنتقرب إليه بما يحبه منا من صنوف العبادات التي تقربنا إليه زلفى، فكم فرطنا في أيام شغلنا من عدم الخشوع في الفرائض، وكم أهملنا من النوافل التي تجبر الفرائض وتكتب لنا محبته، وكم هجرنا كتابه المبين، فلم نقرأ ولم نتدبر، وكم غفلنا عن ذكره باللسان والجنان.. كل ذلك وهو يمهلنا ولو شاء لآخذنا؛ لأن هذه تعد جنايات في حقنا، لكوننا غفلنا عما خُلقنا لأجله، وهو سبحانه يعفو عن كثير، وها هو سبحانه قد أعذرنا بفتح الوقت لنا لنرجع إليه عن قريب.

ولنجعل من هذه العزلة باباً فسيحاً للمعرفة بالقراءة النافعة، والمتابعة للبرامج والمقاطع المفيدة، لاسيما ما يتعلق منها بأمر ديننا وتاريخنا وثقافتنا ولغتنا، فإن الكثير من الناس لم يكونوا يقرؤون لانشغالهم بمهامهم التي منها المهم وغيره، وها هم الآن حبيسو بيوتهم، فمن لم يجعل لنفسه حظاً من القراءة النافعة فإنه سيرى نفسه مسجوناً بغير سجّان، فالكتاب في الحقيقة هو الأنيس المؤنس، والجليس المصاحب النافع، كما قالوا:

كتابٌ أطالعه مؤنسٌ * أحب إلي من الآنسه

وأدرسه فيريني القـــرون حضوراً وأعظُمُهم دارسه

فمن لم يعش مع الكتاب قارئاً، ومعتبراً ومستنبطاً ومستفيداً، فإنه يكون منفصماً عن ماضيه، وغير نافع لحاضره، فلنجعل هذه العزلة مدرسة فكرية نضيف فيها رصيداً لثقافتنا ومعارفنا التي يتميز بها الإنسان عن غيره.

نسأل الله تعالى أن يعجل لنا بالفرج ويرفع عنا ما حل بنا إنه سميع مجيب.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر