5 دقائق

نوستالجيا على الطريق الخاطئ

جمال الشحي

يشير معنى نوستالجيا إلى الحنين والتعلق والحب الشديد إلى العصور الماضية، بأماكنها وشخصياتها وأحداثها أيضاً، إنها رومانسية الحنين إلى الماضي، شعور جميل يلاحقنا ويتتبع خطواتنا في إثارة ذكرياتنا وشدّنا إليها بكل سطوةٍ، تنجح أحياناً وتخفق أحياناً أخرى. تراود الرغبة الكثير منا، ونحن في خضم الصراع مع ذكرياتنا الجميلة، في أن نرى الزمن متوقفاً، لكي نعود إلى الماضي.

الحنين سلاح يعرف نقاط الضعف عندك، ويقوم بطعنك، أو كما يردد آباؤنا وأجدادنا أقوالهم المأثورة: «الله على زمان أول»، و«قبل كنا مرتاحين وحياتنا غير»، و«يا ليت ترجع تلك الأيام».

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان الماضي جميلاً ومريحاً حقاً حتى نتشوّق له بلهفة ونتوق إلى العودة إليه؟

ربما بحكم العمر والتجربة، لم يُقدّر لي أن أعيش قبل الاتحاد، لكن بعض الذكريات عن البدايات تقتحم ذهني، وفي لحظة الكتابة الآن، ترنّ في أذني كلمات أغنية أم كلثوم «فات الميعاد»: «عايزنا نرجع زي زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان».

قد نجد على ضفاف خليجنا العربي، الأهل والأماكن ورائحة البحر، وما ينتج عنهم من علاقات اجتماعية نفتقدها الآن، رغم الفقر والتعب والشقاء التي كانت تنتظرنا على الأبواب، سنجد معها الأمراض تعشش في بيوتنا، ومعدلات الوفيات تحاصر مدننا وقرانا، بالإضافة إلى ندرة الطعام وشّح المياه، كان الناس آنذاك يعيشون ليومهم، ويجهلون ما يحمله لهم الغد.

كان الغد عدواً مفترساً ينتظر خطواتك، ويعاني جيرانك من الشيء ذاته، لكن البحر يبقى غنياً بخيراته الوافرة، فهو بلاشك صديق المدن والصيادين، ولكنه يتربص بالغدر أيضاً! الكل يعرف أن البحر غدّار، لكننا مجبرون على التعايش معه، ولطالما عرفنا أنه لم يتردد يوماً من الفتك بأجدادنا وأسلافنا في زمن الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وكثيرٌ منهم انتهوا إلى جثث ترسو في قاع البحر، لكننا في الوقت نفسه لا ننكر فضل البحر علينا رغم مآسيه.

لماذا إذاً نناقض أنفسنا ويشدّنا الحنين إلى الماضي؟ ولعلي أجزم لو أتيحت لنا فرصة العودة إلى حياة البحر تلك، لسارعنا إلى الهروب منها بعد سويعات.

خضعت منطقتنا إلى الاستعمار البريطاني لأكثر من مائة وخمسين سنة، وقد اضطر للخروج بلا عودة، ولم يشيّد حتى مدرسة، ولم يعتنِ بالمدن ولا البشر، بل اهتم فقط بما يضمن استمراريته، في حين عاش أجدادنا وأسلافنا تحت وطأته، يعانون شظف العيش والفقر والجهل، تتكرر أيامهم أمام خيارات محدودة، فمنهم من اضطر إلى الهجرة للبلدان المجاورة بحثاً عن فرص العمل، ومنهم من دفع حياته ثمناً للغربة، وهناك جربوا جميع أنواع الأعمال الشاقة، وعملوا عند التجار والشركات من أجل كرامة العيش، كان معظم الشباب يهاجرون بينما كانت العواصم العربية الكبرى تنعم بحياة مستقرة، لماذا إذاً نريد العودة إلى تلك الحياة المقفرة؟

ولو نظرنا إلى تراثنا الثقافي وإنتاجنا الأدبي لرأيناه بسيطاً مقارنة بما لدينا الآن، إذ لم يكن الإبداع أولوية، كان الإبداع في القدرة على العيش إلى الغد.

يقول صاحبي: رغم حياة الفقر والتعب، أحنّ و أريد الرجوع إلى الماضي، هل تريد مرافقتي؟

قلت له: لا تعليق!

jamal.alshehhi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .


هل كان الماضي جميلاً ومريحاً حقاً حتى نتشوّق له بلهفة ونتوق إلى العودة إليه؟

تويتر