5 دقائق

لماذا هربنا من البحر إلى الصحراء؟

جمال الشحي

أسئلة كثيرة تدور في ذهني عن ثنائية التراب والماء، ما الذي تستطيع أن توفره لنا الصحراء ولا نقدر أن نجده في المدن؟

في الصحراء الممتدة في عمق تاريخنا كانت ولاتزال تحتضن مدننا بحب منذ الأزل، تحيط بنا من كل الزوايا، بكثبانها الرملية المنتشرة كالأمواج، ونباتاتها الصحراوية النادرة التي لا يعرف أسرارها غيرنا، هذه الصحراء لها القدرة الساحرة على جذب الناس من مختلف الأعمار والأجناس، ولكن كيف قُدّر لنا أن نعشق الصحراء ونحن أهل البحر؟

الأطفال يتقنون كل فنون التغيير والاندماج ونسيان الماضي، لكن ذكرياتهم الأولى تظل عالقة في أعماق الوعي، تطرق الباب عليهم وتدخل عنوة بلا استئذان، كأنني أسمع طرقاتها الآن. لم يكن جدي يرغب في أن يترك بيتنا القديم الذي بناه بيديه، وانتقل إلى الحي الجديد، قاوم بعناد طفل، وتشبث بالماضي، وتعلق بنوافذ بيتنا الخشبية، بالمزلاج، وصرخ على الجيران، طالباً العون، لكنهم كانوا قد غادروا. وبعد مضي أربعين سنة، مازلتُ أحمل الكثير من الأسئلة، هل أهلنا هم أنفسهم من تغيروا؟ ماذا حصل للبسطاء في قريتي التي تنام على البحر؟

• تريد أن تعرف؟ حسناً.

هدمت منازل الفريج وشُيّدت مكانها عمارات وأبراج.

• وماذا عن شاطئ البحر؟

• تحول إلى ميناء.

• وصيادو السمك وغواصو اللؤلؤ من أهلنا؟

• تعلموا وتغيروا.

• هل يعني ذلك أنهم تغيّروا نحو الأفضل؟

• يعتمد من أي زاوية تراهم؟

• كيف تنازلوا عن البحر؟

•  قلت لك: لا تعليق.

أتذكر جدي مبرراً عدم رغبته في الذهاب معنا:

«ماييني الرقاد إلا يوم أسمع صوت طائر (النّقد)، وهو يصرخ على البحر، تبوني أرقد على صوت (أبوالعيس) في البر».

لم أفهم ماذا كان يقصد في حينها، لا يتقن لهجتنا المحلية الجميلة ومفرداتها الأنيقة سوى قبائلنا، على هذا الساحل الذي بدأ يندثر شيئاً فشيئًا مع رحيل شيابنا وعجائزنا.

أنا لا أتحدث مثل جدي ولا حتى مثل أمي، ولا أتحدث أيضاً مثل أخي الكبير الذي عاشر أجدادي أكثر مني. لقد تغيّرت مفرداتي وأصبحت أتحدث بلهجة خليطة وحديثة نوعاً ما، فيها بعض من لهجتي الأصلية. حكمة التغيير أفرزت جيلاً مختلفاً بلسان مغاير، لم تعد المفردات المحلية الأنيقة موجودة. وكلما سمعت مفردة عابرة من مسنّة أو شيبة التفت، لألتقط الصوت كأنني أبحث عن شي فقدته.

أهلي وقبيلتي يعيشون على هذا الساحل منذ مئات السنين، أتساءل: كيف تنازلنا عنه ورضينا بالصحراء؟ لا أدري.

كيف تركناه وهو جزء من نسيجنا، ماؤه عمدنا، هدير الموج كان لحناً من ألحان الكون، أصبح بوضع اليد لحننا المفضل والخاص، كنا ننام على صوته، نعرفه جيداً عندما يغضب ويعرفنا عندما نفرح، يخفف من هديره حتى ننام، ونظل نسمع ونحسب موجة بعد موجة بعدها موجة وببطء نغمض أعيينا، ونصحو فجأة لنتأكد من وجوده ونسمعه مرة ثانية وثالثة، ونغفو في عالمنا ويبات يحرسنا، شعور الأمان عندما تنام وتعرف أن من يسهر على أمنك هو البحر.. للحديث بقية.

jamal.alshehhi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .


الأطفال يتقنون كل فنون التغيير والاندماج ونسيان الماضي، لكن ذكرياتهم الأولى تظل عالقة في أعماق الوعي.

تويتر