5 دقائق

القصة وأثرها التربوي

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

للقصة الحقيقية أثرٌ بالغ في التربية السلوكية لقارئها وسامعها؛ فهي تنمِّي العقل وتشحذ الذهن وتؤسس لمنهج سليم وتجدد الذاكرة وتحمل على المحاكاة، وتحُد من الإرادات المنفردة والقرارات الخاطئة أو تمنعها؛ فضلاً عن أنها عذبة القراءة، سهلة الحفظ، لا يمل القارئ ولا السامع من سردها، لاسيما إذا كانت بأسلوب أدبي أخَّاذ، وسياق مترابط؛ لذلك كانت عناية القرآن الكريم بها كبيرة، فكم سرد الله تعالى من قصص الأولين من الأنبياء والصالحين وكيف كانت عاقبتهم، والفجار والكافرين والمشركين وكيف كانت عاقبتهم؟! حتى قال الله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، فذكر من فوائدها تثبيت القلب وطمأنينته بوعد الله تعالى بالنصر والتمكين كما كانت عاقبة الأنبياء والمرسلين قبله، وقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً﴾.

ومازال الرجال الكبار ذوو الأخبار التي لها أثر في سير حياتهم؛ مازالوا يدونون أخبارهم وأحوالهم ومواقفهم وحوادثهم لتكون مرآةً صادقة عن أعمارهم وأعمالهم، وتكون عمراً ثانياً لهم، وليستفيد منها القارئ، وتكون نبراساً له وأنموذجاً يحتذي به.

وهذا ما فعله فارس العرب وشيخ الحُنكة والحكمة وسلالة المجد محمد بن راشد، حفظه الله ورعاه، فقد كتب 50 قصة ضمنها وقفاتٍ رائعةً من حياته المليئة بالإنجاز والحكمة، لعلها تكون طليعة لوقفات أخرى هي أكثر روعة، وأكبر نفعاً.

سردها بأسلوب الكاتب البارع الذي يسرد الكلام متناسقاً مع سباقه ولحاقه، حتى ترتسم في الذهن كما ترسم المرآةُ الصافيةُ الشاخصَ أمامها فلا يفرق الرائي بين الحقيقة والخيال.

نعم، لقد كتب وقفاتٍ تاريخيةً من حياته، وهي في الحقيقة دروس عملية في شتى مجالات الحياة: في التعلُّم في الفروسية في السياسة في الحزم والعزم، في الإدارة في الأخلاق في التربية الأسرية في التضحية، في النصح في حب الخير في الكرم في الوفاء في العطاء في حب الصدارة، وكل هذه القصص تعتبر تجارب واقعية، ودروساً تطبيقية لمثل هذه الخلال الكريمة التي تحمل قارئها على أن يأتسي بهذا القاص الحكيم الصادق.

إنها قصص قائد رائد، وحاكم راشد، وحكيم ماجد، مليئةٌ بالعبر والمواقف الكريمة التي حقها أن تكتب بماء الذهب؛ لعظيم نفعها وكبير فائدتها لليوم والغد وبعده، وهي سجل ناصع بياضاً عن حال هذا الرجل الذي يحمل هم الإنسانية، فضلاً عن حمل هم شعبه الذي أوصله إلى أوج الحضارة، وسيحمله قريباً إلى أوج الصدارة في كل شيء يمكن الوصول إليه، فهو لا يعرف المستحيل إلا في قاموس فقه اللغة، لا في واقع العمل، فكم من المستحيلات عادةً أصبحت من الممكنات المقبوضات باليد.

لقد سرد قصصه في نشأته وتعليمه وفروسيته وسياسته وحكمته ورؤاه البعيدة، وهي كلها تنطق بلسان الحال بأنني كنت كذلك وفعلت ذلك، وبإمكان الآخرين أن يكونوا وأن يفعلوا مثله، إذ ليس القصد من سردها تدوين الوقائع والأحوال التي مر بها، بل ليُري غيره أن الهمم العالية لا يقف في وجهها شيء، وأن العجز النفسي هو الذي يثبط ويحبط ويجعل الجائز مستحيلاً، والممكن بعيداً، وهذا ليس من شيم كُمَّل الرجال، وكأني به يقول ما قاله الحكماء: «نكح العجز التواني فخرج منهما الندامة، ونكح الشؤم الكسل فخرج منهما الحرمان»، ولذلك ختمها بالوصايا الإدارية العشر التي من أخذ بها أخذ بأزمَّة النجاح، لاسيما القادة والوزراء والمدراء وأرباب الأعمال، فهي خلاصة تجربة وعصارة عمر، فهم يحتاجون إلى تجارب الناجحين وطرق المصلحين فوضعها لهم على طبق من ذهب ليأخذوا منها ما لذ وطاب.

إن كتاب «قصتي» هو الجليس المؤنس الذي يستمتع به القارئ والسامع، بل الناظر إلى حُلَّته البهيَّة، الموشحة بالصورة المثالية لهذا القائد الرائد الهمام، وقد جاء في سياق سلسلة كتاباته البديعة في الحُكم والحكمة، ولكنه يختلف عن سابقيه بأن الحكمة تؤخذ منه بالمثال لا بالمقال، ولعل المثال أبلغ تأثيراً من المقال.

أدام الله الكاتب الكبير، ونفع بكتاباته الجم الغفير، وحقق أمانيه في شعبه وأمته وبني جنسه، إنه ولي قدير وبالإجابة جدير.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

تويتر