5 دقائق

الحكيم الذي ذهب

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

حدثنا التاريخ القديم عن كثير من حكماء العرب خاصة والمسلمين عامة، وحدثنا التاريخ المعاصر عن حكماء آخرين جاد بهم الزمن في وقت كثر فيه الجهل، وقلَّت فيه الحكمة، وانتشرت فيه الأنانية المفرطة، فدمرت وأهلكت الحرث والنسل.

وممن حدثنا التاريخ المعاصر عنه من حكماء زماننا نماذج قليلة، لكنها مصابيح مضيئة، أعطتنا أملاً بأن هذه الأمة لاتزال تفيض حكماء يجدد التاريخ الحديث عنهم بين الفينة والأخرى؛ من أولئك الحكماء الذين خلّد التاريخ ذكرهم حكيمُ العرب، زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، وراشد الحكمة، أحسن الله مثواه، وأنجالهما الكرام، حفظهم الله، الذين تخرجوا في مدرستيهما، فنهجوا نهجهما حكمةً وحُكماً، وسداداً وفهماً، فشيّدوا بناء الدولة التي أسساها، وأقاموا صرحها الشامخ الوارف الظلال في المشارق والمغارب، فلا تكاد توجد دولة لا تنظر إلى هذه الدولة بنظر الإعجاب، فضلاً عن التقدير والاحترام.

وعلى ذلكم النهج الحكيم والمشرب السليم؛ حكيم آخر صاحبناه في أسفار عديدة وجلسات مفيدة، إنه عبدالرحمن سوار الذهب، أنزله الله منازل المقربين، الذي كان من آخر مناصبه الشَّرفية الفضِيلة؛ عضوية مجلس حكماء المسلمين، فصدقت فيه الحكمة اسماً ووصفاً، فكان حكيماً في أطروحاته ومرئياته، وفي سَمته وفعله، فلم يكن يفخر بماضيه العريق من كونه صاحب فخامة، وصاحب نياشين عسكرية متناهية الرفعة، وصاحب نسب عريق، وصاحب يدٍ طولى في فعل الخير والسعي فيه، وصاحب حُنكة كبيرة في السياسة.. إلى غير ذلك من خِلع الألقاب التي تغُر وتضُر، بل كان يرى نفسه أحد أعضاء مجلس الحكماء المسلمين، يؤخذ منه ويُترك، ويأخذ من غيره ويَترك، ويسهم في عطاء المجلس كغيره، ويتحمل من عناء الأسفار والأخطار ما قد يعجز عنه غيره، ولا يبالي ما يحصل من نقص أو تقصير، ولقد كنا في رحلة أخيرة قبل شهرين، وكان هذا لقاءنا الأخير، فلم يصحبه مساعده في رحلته هذه، وقد كانت رحلته ذات محطات متتالية، تأخرت فيها حقيبته، فلم يكترث لكل ذلك، ولو كان غيره لم يهدأ له بال.

ذلكم الذهبُ الذاهب جسمه، الباقي في الغابرين رسمه وفضله، هو مدرسة جديدة من مدارس الحكمة الإنسانية في زهده عن الولاية الدنيوية، لأنه من أولياء الآخرة، ولعله لم يكن يشعر بذلك، لهضم نفسه وكرم معدنه، ولتفانيه في فعل الخير وسعيه فيه، لأنه نشأ من معدن خير كابراً عن كابر، نشأ في بيت علم وفضل وصلاح ومكانة مجتمعية كبيرة، ولوفائه بعهده وقيمه؛ لأنه يعرف عظمة الوفاء مع الله ومع الناس، ولمحبته للناس؛ لأنه يعرف محبة الناس له حيث لم ينازعهم دنياهم وحظوظهم.

لقد فارقنا سوار الذهب بجسمه، لكن الله تعالى أبقى له تأريخاً عجيباً، ليكون حياً بين الناس بذكره العاطر، فيرونه أسوة للرجل النزيه في الحكم، الصادق في العهد، الساعي للخير، الزاهد في الدنيا، المحاسب للنفس، فيتأسى به الموفقون، وهذه هي الحياة الباقية التي ينشدها الحكماء، وكما قال بعضهم:

موت التقيِّ حياة لا نفاد لها

                    قد مات قوم وهم في الناس أحياءُ

أو قول الآخر:

قد مات قوم وما ماتت مآثرُهم

                وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ

وإن أنسى شيئاً من مآثر هذا الرجل الصالح، الذي أحبه الله، فوضع له القبول في الأرض، فلا أنسى توديعي وابني عبدالرحمن له يوم خروجه من الفندق في العاصمة البريطانية، ليذهب لزيارة إحدى قريباته، فكان لقاء وداع مشحوناً بالعاطفة والمحبة، فكان سلوة لنا عن لقاءاتنا المتكررة في مجلس الحكماء المسلمين، وعزاؤنا وسلوتنا الكبرى فيه، رحمه الله، أن الله لن يضيع أجره ولا ذكره، فسيبقى هذا الرجل أحد النماذج الصالحة للرجال الصالحين، وسيبقى ذكره في الآخرين.

فرحمه الله رحمة واسعة، وأنزله منازل الصديقين، وهنيئاً له أن كان مثواه في جوار سيد المرسلين، عليه أفضل الصلاة والتسليم.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 


«هذه الأمة لاتزال تفيض حكماء يجدد التاريخ الحديث عنهم بين الفينة والأخرى».

تويتر