5 دقائق

الأم والأب ومواسم الذكريات

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

جميل أن تكون هناك مواسم تجدّد الوفاء والولاء والمحبة والبر والطاعة للوالدين، لما لهما من عظيم الحق وكبير الإحسان، وقد صُنعت هذه المناسبات لمّا وُجد الجفاء والعقوق والتنكر من الأولاد لمن لهم الحق الأكبر في هذه الحياة بعد حق الله تعالى في الإيمان والعبادة، فناسب أن يُنشأ ما يُسمى بعيد الأم؛ لأنها الطرف الأضعف في معادلة الأبوة غالباً، والأكثر حاجة للبر والإحسان كونها حبيسة البيت غالباً، وأكثر عرضة للأسقام، وأعظم أُنساً بما يقدم لها من بر، قليلاً كان أو كثيراً - هذا عندنا معاشر المسلمين - أما عند غيرنا فلأن الأم هي الطرف المعروف قطعاً، فكان الاهتمام بها أكثر فأقاموا لها مناسبة احتفاء في 21 من مارس في عالمنا العربي، أو في غير هذا التاريخ في الدول الأخرى، وأيّاً ما كان؛ فإن ذلك جميل في الجملة؛ لأنه يذكر ببعض الحق الواجب للأم التي حملت كُرهاً ووضعت كرهاً، ووهناً على وهن؛ حملاً وفصالاً وحضانة.. وهي التي لا تجد سعادتها إلا بسعادة أولادها، كما أنها تشقى كل الشقاء إن شقي أولادها، فكان لها حق عظيم، لا يفي به أي حق يقدمه الأولاد، ومع ذلك فيرضيها القليل، على حد قول الشاعر:

على الأولاد أن ينظروا

إلى الأجداد والجدات

نظرة أكثر حِنِّية

وأكبر عطفاً وبراً.

قليلُ منك يكفيني ولكن.. قليلك لا يُقال له قليلُ

أو قول المتنبي:

وقنعت باللقيا وأولِ نظرة.. إن القليل من الحبيب كثيرُ

غير أن هذه اللفتة يجب أن تكون من باب الذكرى لهذا الحق العظيم، فلعل الولد إن كان قد غفل عن ذلكم الحق العظيم، أو نسي قوارع الآيات الزاجرة عن العقوق والآمرة بالبر، فقد جاءته الذكرى من مناسبة الأيام والليالي، وعادات الناس التي ذكرته بالواجب الإنساني والإسلامي، والذكرى تنفع القلب الحي فتوقظه من غفلته وتعيد له بعض ذاكرته أو كلها، فتشحذ همته لمواصلة البر والإحسان والطاعة والعرفان مدى الدهر.

كما أنه يجب أن يتذكر هذا الولد – ذكراً كان أم أنثى - أنه لم يولد من غير أب كعيسى ابن مريم، ولا هو لقيط لا يدري من أبوه، بل عليه أن يعرف أنّ له أباً شيخاً كبيراً كان أساس نعمة وجوده، وهو السبب الأول في نشأته وتربيته وبلوغه مبلغ الرجال والبنت مبلغ النساء، حتى طَرَّ شاربه، وقويت عضلاته فأصبح هذا الأب ينظر إليه أنه عون وعضد ومسعد له في هذه الحياة، وأنه أثر له بعدها، فإن هو لم يتذكر ذلك، فإن ذلكم الأب وهو الأقوى قلباً لعله يندم ندامة الكُسَعي أنْ خاب أمله في ولده، ولعله إن كان عاقلاً لا يتعدى هذا المستوى، وكفى به عقاباً لذلكم الولد الناكر للجميل؛ ولعل أبواب السماء تفتح لانكسار خاطره، فلا يفلح ذلكم الولد في دنياه ولا يسعد في أخراه.

كما أن الواجب الكبير أيضاً على الأولاد أن ينظروا إلى الأجداد والجدات من جهة الأب أو الأم - وإن علوا - نظرة أكثر حِنِّية وأكبر عطفاً وبراً، فإن لهم من الحقوق مثل الأب أو الأم المباشرين، بل أكثر نظراً إلى ضعفهم وعجزهم.

ومن هنا كانت شريعتنا الإسلامية وافية كافية في بيان حقوق الوالدين وإن علوا، توصية بهم، وأمراً بالإحسان إليهم، وتذكيراً بعظيم إحسانهم.. حتى يظل المسلم وفياً لوالديه ما دام حياً، فهذا ما يريده الإسلام منا معشر الأولاد، حتى يعيش المجتمع محسناً متواصلاً، فتزداد سعاته في الدنيا والآخرة، ويتكامل المجتمع بالترابط وتقوية الأواصر، وقد كانت هذه المناسبات مذكرات إذا لم ينفع التذكير الرباني أو قل الوازع الإنساني، فلنستفد منها ولنجعلها صفحة جديدة لعلاقة أسرية متينة، فإن المجتمعات لا تصلح وتسعد إلا بمثل هذا الترابط، كما أن استشراف مستقبل الشيخوخة يتعين أن يكون من اليوم؛ فإن البر سلف يجد قضاءه عندما يحتاجه، سواء بسواء، كما يشير إلى ذلك حديث جابر بن عبدالله، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم...».

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر