لحظة

السؤال أهم أم الإجابة؟

ياسر حارب

إذا قرأتَ هذه الجملة: «أنا جُملة كاذبة» فهل تصدقها أم تكذِّبها؟ فإن صدّقتها فقد أخطأت، لأنها تقول إنها كاذبة، وإن كذّبتها فقد أخطأتَ أيضاً، لأنها بذلك تصبح صادقة، وهي تنفي الصدق عن نفسها. فما الإجابة الصحيحة إذاً؟ في الحقيقة الإجابة ليست مهمة هنا، وفي كثير من تساؤلات الحياة فإنها ليست مهمة، فليس الهدف من الأسئلة إيجاد إجابات مناسبة، بل استثارة التفكير عند الإنسان، وهنا يأتي دور المنطق.

لكن المنطق لا يعطينا الإجابات الصحيحة، بل يدفعنا إلى التفكير بطريقة صحيحة. فعندما تسمع من يقول: إن الإسلام يدعو إلى العنف، ويستشهد ببعض القصص والأمثلة، سواء من التاريخ القديم أو المعاصر، فإنك غالباً تحتار كيف ترد عليه، لكن دارس المنطق يستطيع فعل ذلك بكل سهولة. ففي المنطق هناك مصطلحان مهمّان: «المفهوم والمصداق»، فالمفهوم هو الصورة الذهنية عن الأشياء، أما المصداق فهو تنزيل تلك الصورة الذهنية في الواقع. فمثلاً، إذا كانت السيارة هي المفهوم، فإن نوع السيارة (مرسيدس، نيسان، أودي.. إلخ) هو مصداق لمفهوم السيارة، وإذا كانت تجربتك مع أحد تلك الأنواع سيئة، فلا يمكنك أن تقول إن السيارة اختراع سيئ، لأنها تتعطل دائماً، بل تحكم فقط على السيارة التي استخدمتها. وبالتالي، إذا كان الإسلام هو المفهوم، فإن «داعش» التي يتشدّق البعض ويستدل بها على عنف الإسلام، ما هي إلا مصداق واحد من مصاديق عدة لا تمثل الحقيقة. فهناك الكثير من المصاديق البرّاقة في التاريخ الإسلامي، التي تدل على سماحة الإسلام وتسامحه. ولكي نحكم على الإسلام كدين، فعلينا أن نناقش المفهوم وليس المصداق، أي مبادئ الإسلام وتشريعاته، وليس النزول لمناقشة أحد مصاديقه ونكتفي بها، وهذه إحدى أكبر مشكلاتنا اليوم، أن يناقش أحدنا المفهوم ويرد عليه الآخر بمناقشة المصداق، دون أن يعلم كلا الطرفين أنهما يناقشان شيئين مختلفين!

وفي المنطق ست مراتب للإدراك، الأولى، اليقين: وهو إدراك الأمر على ما هو عليه إدراكاً جازماً. كأن تقول إن فلاناً في البيت، وهو فعلاً فيه. الثانية، الظن: وهو اختيار الاحتمال الأكثر صواباً، كأن تقول عن طائرة تسير على المهبط إنها على وشك الإقلاع، ورغم أن هناك احتمالاً ضعيفاً بأنها قد لا تقلع لعطل ما، إلا أن ذلك الاحتمال هو الأضعف. الثالثة، الشكّ: وهو ألا تثبت ولا تنفي مسألة ما، كأن تقرأ معلومة ثم لا تدرى في أي كتاب قرأتها. الرابعة، الوهم: وهو أن تختار الاحتمال الأضعف، كأن تقول إن الطائرة - في المثال السابق - لن تقلع. الخامسة، الجهل البسيط: وهو ألا تعلم أين أوقفت سيارتك، وتعلم بأنك لا تعلم. المرتبة السادسة، الجهل المركّب: وهو ألا تعلم، لكنك تعتقد بأنك تعلم، كأن تقول - جازماً - إن أكل الجزر يُقوي النظر، وهي معلومة ليست دقيقة، فرغم أن فيتامين (أ) الذي يحتويه الجزر مهم للحفاظ على صحة العين، إلا أنه لا يقوي النظر. وإنما كانت تلك إشاعة من القوات الجوية البريطانية في الحرب العالمية الثانية، لتبرير قدرة الطيّار المقاتل (جون كانينغهام) على ضرب طائرات العدو ليلاً، إذ كانت طائرته تحمل راداراً محمولاً، وأرادت الحكومة إبقاء ذلك الاختراع سراً، فأشاعت عن الطيار أنه يكثر من أكل الجزر، فصار نظره خارقاً! وسميّ «جهلاً مُركّباً» لأنه مركب من أمرين، الأول، أنك لا تعلم، والثاني، أن اعتقادك خاطئ. وهنا تقبع كثير من العقول التي يعتقد أصحابها أنهم على حق، فيشتمون ويُكفّرون ويثيرون الفتن، ولا يدرون بأنهم لا يدرون.

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر