أبواب

دمعة برّية

أحمد حسن الزعبي

لا روزنامات ولا مفكرات تحت الأرض، ولولا الشمس التي تتسرّب من شقوق النافذة العلوية لتداخلت الأيام ولتغوّل الليل على أعمارهم.. سمع أغنية من تلفاز قريب في الملجأ، حاول أن ينهي إفطاره سريعاً، ترك نصف رغيفه وكوب الشاي وصعد درجات المأوى.

قرّب منها الوردة..

أخرج طبشورته ورسم

على الحائط فوق

وسادتها وجهاً

مبتسماً.. وكتب كل

عام وأنت بألف خير ثم

أجهش بالبكاء.

في الغوطة الشرقية عندما اشتغل القصف، تعطّل كل شيء، لا متاجر، لا أسواق، لا محال للهدايا، لا مال أصلاً بيد الناس ليتسوقوا، من حظي بملجأ تحت الأرض فقد صادقته الحياة، ومن لم يجد فقد اتخذه الموت خليلاً.

مشى الطفل بين البنايات المهدمة، أرعبه منظر الشبابيك التي اندلق زجاجها وبروازها، فأصبحت تشبه العين الباكية، بعض الشرفات تدلّت على الأرض، وغرف النوم قذفت خزائنها ونثرت ملابس الأطفال والملابس الصيفية المخبأة لحين سلام، كان ينظر إليه بعض المارّين القلائل باستغراب.. بعضهم كان يسأله «هيه يا ولد؟ مضيّع أهلك؟» فلا يجيب، هو أضاع وطنه كله، أما أهله فكانوا ممن صادقتهم الحياة وعاشوا هناك في الملجأ آخر الحي.

تذكّر كيف كان يجمع من مصروفه اليومي طيلة فبراير ومنتصف مارس ليشتري لأمه شالاً أو قميصاً بيتياً أو حتى «شحّاطة»، كم كان يفرحها أن أوسط الأولاد يتذكّرها ويتذكّر 21 من مارس تماماً كالكبار، لكن هذا العيد بات مختلفاً، لا مال ولا مصروف ولا مدرسة، لا محال هدايا، ولا متاجر ألبسة، ولا حتى باعة متجوّلون.. طفحت الدمعة في عين الصبي لعجزه وقلة حيلته، هو يريد أن يهدي أمه أي شيء، المهم ألا يمرّ هذا اليوم عادياً أو خالياً أو محايداً كلون الإسمنت في ملجئهم المعتم.. نظر في حيّه الخاوي، اقترب من حوض عشبي يخبّئه سياج مدرسة مهجورة، ثمة وردة حمراء في رقعة من العشب، قطف وردة شقائق النعمان من ساقها، مضى بطريقه، التقط قطعة طبشور بيضاء على بعد خطوات، شعر بعجزه للحظات وتواضع الهدية، لكنها الشيء الوحيد الذي لم يمت في عاصفة الموت المجاني.. هرول تجاه الملجأ، نزل الدرجات بسرعة، اقترب من أمه المنشغلة بشؤون البيت.. قرّب منها الوردة؛ قبّلها وأهداها الدحنونة البرية، ثم مشى نحو فراشها، أخرج طبشورته ورسم على الحائط فوق وسادتها وجهاً مبتسماً.. وكتب كل عام وأنت بألف خير ثم أجهش بالبكاء..

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

 

 

تويتر