أبواب

رسولة الغربة

أحمد حسن الزعبي

صوتها صيفي بامتياز، لا يمكن أن أسمع تلك الطبقة الدافئة ولا تحضر في ذهني صور العاشقين الذين يتمشّون على سطوح بيوتهم آخر النهار، أو شوق المسندين رؤوسهم على زجاج الحافلة في طريق العودة، لا أستطيع أن أسمع صوتها، ولا أشتمّ رائحة الثمانينات والصيف والناس البسيطة ومحطات الحافلات التي كانت تطرب المارين من هناك مجاناً وكرماً.

• رحلت شادية، رحل سطوع الأبيض والأسود، الغناء لأجل الحب لأجل الرسالة.. رحلت شادية، وأسدلت شال ذكرياتها على رأسها، وهي تدندن «خلاص مسافر» و«قالي الوداع»..

صوتها شبّاك الروح الذي نتنفس فيه عواطفنا.. منه تشرق المحبة، ويغيب العتب إلى الأبد، ويكفي أن تسمع «والنبي وحشتنا»، لتسقط الدمع من قلوب المغتربين قبل عيونهم، ومن قلوب الأمهات قبل عيونهن، و«خلاص مسافر» هي التذكرة الأوجع التي كانت ترافق كل أبناء مصر الصاعدين إلى السفن والطائرات والحافلات بحثاً عن الرزق، فالمصري القديم، كان يملك جواز سفر رسمياً، وجواز سفر عاطفياً (كاسيت خلاص مسافر).

في الثمانينات كنت إذا أردت أن تكرّم «النقاش» أو الدهّان المصري الذي يقوم بأعمال الصيانة في البيت، فقط اصنع له إبريق شاي ثقيل، واسند قربه مسجّلاً فيه شريط لشادية «قولوا لعين الشمس ما تحماش».. هكذا يعتبر نفسه في بلده مصر، ويعتبر البيت بيته.. شادية كانت الأم في «سيد الحبايب يا ضنايا انت»، وبقيت الأم التي تغني لملايين الغيّاب.

كلما غادرنا نجم أصيل، وحمل معه ذكرياتنا وأيامنا وشبابنا واغترابنا، وأسباب تعلقنا به، أحسّ بأن غصناً من شجرة العمر قد كُسر، أو قطعة من جدار الدفء قد سقطت وانتهت، أحسّ بأن أحد أركان الحب غادر، وواحداً من أعضاء العائلة كرّر الرحيل مرة أخرى، أحسّ بأن الطرب الأصيل بدأ يخفت ويستسلم لكل ما هو جديد، وكأنه ينذرنا بالمغادرة أيضاً.

رحلت شادية، رحل سطوع الأبيض والأسود، رحل الغناء لأجل الحب، لأجل الرسالة.. لأجل الطرب.. رحلت شادية، وأسدلت شال ذكرياتها على رأسها، وهي تدندن «خلاص مسافر» و«قالي الوداع». تمر كل الصورة الجميلة، والأمومة الرائعة، وأغاني عيد الأم، وسيد الحبايب، قطر الفراق، تمر سريعة فوق الابتسامة الأخيرة.. ياااه ما أقسى الاغتراب على أبناء مصر، وأبناء العرب، بعد رحيل رسولة الغربة، شادية! «والنبي ح توحشينا».

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر