5 دقائق

تفعيل الوقف

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لايزال الوقف فاعلاً أساسياً في تنمية المجتمعات شعائرياً ومعيشياً وعلمياً وصحياً وبيئياً وغير ذلك، يحمل على ذلك الوازع الديني والإنساني في قلب المسلم؛ بحب الخير ومحبة الناس والبيئة، فكان المسلمون بهذا الوازع سباقين إليه متنافسين فيه؛ كلٌّ بما تجود به نفسه ويستطيع فعله، كما كان من أصحاب رسول الله، صلى عليه وآله وسلم، فيما رواه جابر بن عبدالله، رضي الله عنهم أجمعين، قال: لم يكن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا مقدرة إلا وقف.

وقد سار على أثرهم التابعون وتابعوهم، وكل قرون السلف والخلف في سائر البلدان، فكان الوقف يعلِّم ويطبِّب ويطعم ويؤوي، ويسد الحاجات المختلفة للإنسان ويشبع الحيوان، وكان هو الفاعل المؤثر في الحضارة الإسلامية في الحواضر كلها، ولم يكن للدولة دور كبير في شيء من ذلك.

فلما ضعف الوازع الديني لدى نُظّار الأوقاف سطوا عليها - مع عظيم الجُرم - واستهانوا بوظائف النظار ة من عمارة الوقف والحفاظ عليه - مع ثقل الأمانة - كان ذلك سبباً رئيساً لزهد الناس عن الوقف، فضاع عن المجتمع خير كثير ونفع وفير.

والأمة اليوم في عصر النهضة الحديث لاتزال تذكر فضل الوقف على الأمة، لذلك أنشأت كل دولة وزارة أو هيئة عامة للأوقاف، لتحيي ماضيه التليد، وتجدد آثاره في المجتمع، غير أن كثيراً من هذه المؤسسات الوقفية بقيت واقفة على إحياء ما تيسر من الوقف الماضي، ولم تتحرك لإيجاد وقف جديد نافع مفيد، مع ما بذلت من محاولات لتنشيط دوره من خلال الصناديق الوقفية وغيرها، فلم تُجدِ هذه المحاولات نفعاً ذا أثر كبير، فكان لابد من فعل نمط آخر يحيي دور الوقف العظيم في سائر وجوه الحياة؛ فكان ذلكم القانون الذي أصدره صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد - رعاه الله - والذي يعتبر أول قانون من نوعه يُعنى بتنظيم الأوقاف والهبات معاً، ويعتبر مستنداً تشريعياً يعمل على بناء البيئة التنظيمية لكل المسائل المتعلقة بالأوقاف والهبات في دبي، وفق أفضل الممارسات، من خلال بيان شروط وأحكام الوقف والهبة، بالإضافة إلى تنظيم عملية إنشاء مؤسسات الأوقاف ومؤسسات الهبات.

فإن هذا القانون سيكون محركاً أساسياً لتنشيط عمل الوقف، إذ كان من أبرز أهدافه:

1- تمكين الوقف والهبة من تلبية الحاجات التنموية المختلفة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

2- تشجيع الوقف والهبة ضمن مبادرات مبتكرة تتناسب وحاجة المجتمع بفئاته المختلفة.

3- تنمية الوقف والهبة، وتوجيههما نحو المبادرات والمشروعات الإنسانية المختلفة.

4- تنويع أشكال ومصارف الوقف والهبة، من خلال الأساليب التقليدية والمبتكرة.

5- الإسهام في وضع نظام حوكمة واضح للأوقاف والمؤسسات الوقفية التي يتم إنشاؤها في الإمارة.

وبهذا القانون ستفتح أبواب الوقف المختلفة لنرى، إن شاء الله تعالى، جامعات وقفية تستقطب الشباب الطامحين من مختلف الجنسيات، وفي مختلف التخصصات، ونرى مصانع ومؤسسات مالية وقفية تُدرّ دخلاً طيباً يحقق إسعاد الناس بحياة كريمة وعيشة راضية، ونرى مستشفيات وقفية تعالج أولئك الذين تفتك بهم الأمراض، وتعِجّ بأخبارهم الصحف ووسائل الإعلام، بل لنرى مؤسسات ترعى الموهوبين في كل مجالات التقنية الحديثة والإبداع والابتكار، ونرى غير ذلك مما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وينفع الواقف يوم العرض.

إن الأمة اليوم بحاجة إلى اقتصاد قوي وعلم نافع سوي، وثقافة واسعة وانفتاح على الآخر، والوقف أحد عناصر تحقيق هذه الحاجة، فلابد أن يسهم الجميع في تحقيق ما يحتاج إليه المجتمع، كل بما يستطيع.

فها هي الدول الغربية التي لم تكن تعرف الوقف فطنت له، فشرّعته وأنشأت مؤسسات وقفية عظيمة كبيرة، منها كبرى الجامعات، ومراكز البحث العلمي، وكثير من المدارس والمستشفيات، وغير ذلك من المشروعات الوقفية التي يبادر إليها كُبَّار رجال الأعمال، ونحن أولى بذلك منهم، لأننا متعبدون به ونرجو ذخره عند الله تعالى، يوم لا ينفع مال ولا بنون، كما أن مجتمعاتنا هي أشد حاجة من مجتمعاتهم.

 «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر