أبواب

آباء كثيرون..

أحمد حسن الزعبي

نحن من يجعل من الأيام تمرّ عادية متشابهة باللون والطول والتفصيل كأسنان المشط، ونحن من يجعل منها كرنفالاً ملوّناً لا ينتهي.

في يوم المعلّم.. شاهدت أحد أساتذتي القدامى، يحمل أوراقاً ومخططات في عيادة القلب منتظراً دوره في المراجعة، قلت ماذا سيقرأون في قلبك يا أبي سوى نتوءات الحروف وحركات التشكيل على آخر العمر.

الأسبوع الماضي، شاهدت أحد الأصدقاء يضع على صفحته في موقع «فيس بوك» صورة «وردة حمراء» مغروسة في قارورة ماء صغيرة يذيّلها بعبارات الشكر لطلاّبه الذين تذكّرونه في يوم المعلم.. لو لم أر الصورة بالمصادفة لم أكن لأعرف أن ذلك اليوم هو يوم المعلم، إذ لم تهتزّ سنابل الطبشور، ولم تزيّن مداخل الصفوف، ولم يهد «إجازة» أو قلماً، أو قبلة تروي مروج الحروف العطشى في عينيه.

أحدٌ في هذه الدنيا لا يحبّ أن تصبح أفضل منه وأنجح منه وأشهر منه سوى المعلم والأب.. أحد المعلّمين حتى اللحظة كلما صادفني لا يخفي افتخاره أني أحد طلابه، يحدّث من حوله عن طفولتي، وسلوكي في الصف يخفي أمامهم عيوبي ويظهر حسناتي كما لو كان أبي، وفي كل مرّة يخرج من محفظته قصاصة جريدة تحتوي إحدى مقالاتي التي أعجبته منذ سنين.. فأقبّل رأسه وأغادر بكثير من الامتنان.

ترى ماذا يريدون منّا بعد أن غادروا أسوار المدرسة، وهجروا الدروس وثنيات الكتب، بعد أن انحنت ظهورهم وسمُكت نظّاراتهم، وبرزت سمّاعات أذانهم؟ هم لا يريدون أي شيء سوى أنهم يفتخرون بوجودنا، يحييون على نجاحنا، يرون أبجديتهم تجلس على كراسي الدولة كل في موقعه المميز.

المعلّمون القدامى كانوا حملة رسالة لا أصحاب مهنة، كانوا يفيضون أبوة وحناناً وإخلاصاً، يجرحون حناجرهم، يعرقون، تثقل رموشهم بغبار الطبشور؛ يأتون من مسافات بعيدة إلى مدارسهم لا يتذمّرون ولا يتوانون ببذل كل ما لديهم.. فقراء نعم بسطاء نعم، لكنهم أغنياء بقلوبهم..

في يوم المعلّم.. شاهدت أحد أساتذتي القدامى، يحمل أوراقاً ومخططات في عيادة القلب منتظراً دوره في المراجعة، قلت ماذا سيقرأون في قلبك يا أبي.. سوى نتوءات الحروف وحركات التشكيل على آخر العمر.. ماذا سيجدون في قلبك الطيب سوى النشيد والطابور الصباحي وجرس الفرصة، لن يجدوا سوى خفقات الطفولة تتأرجح على شرايينك المتعبة، لن يجدوا سوى سكون الصفوف آخر النهار، وتصفيق طويل لمن يجيد الإجابة، لن يحدوا في قلبك يا أبي إلا نبض منتظم كسنين عمرك الهادئة.

فعش طيباً يا أبي الطيب.

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر