أبواب

فيروز التي ببالي

أحمد حسن الزعبي

وأنا أيضاً لم يعجبني ألبوم فيروز الجديد، فيروز كانت توقظ الورد المجفف بين صفحات الكتب، تنثر الحنين على شرفات الشبابيك القديمة، نسافر على متن صوتها من غير حقيبة، يأخذنا اللوز إلى زهره الغافي تحت جفون الورق الأخضر، يسرّح الأرز ورقه على كتف الريح ويتركها هناك.

فيروز كانت فصلاً خامساً في السنة، إذا ما سمعت لحن صوتها تلسعك قشعريرة الخريف، ويبلل رموشك مطر تشرين الأول، يفوح من الأرض عطرها الذي يصافح الزخّة الأولى، والجملة الأولى في صفحات العبير.. فيروز هي قاموس العاشقين الذين عجزوا أن يبوحوا بعشقهم، فواروا زفرات شوقهم تحت مناديل الخجل الأول، هي التي تقرأ خربشات الرسائل، تحلل الحروف الشائكة تحت «تشاطيب» الحبر فوق الصفحات المعطّرة، تهيئ مقعداً عندما تبخل الأرض عن مكان للقاء، وتغلي قهوة على المفرق عندما يكتظّ العطش فوق شفاه البوح.. فيروز كانت شالاً مطرزاً بياسمين الذكريات والحب الذي لن يعود.

فيروز التي «ببالي» تلك خبأتها في «أشرطتي» الملوّنة، تلك التي كانت تطرب رمانة شبّاكي الغربي، تقرع أجراس الرمان في الخريف، تلك التي تفلق حفيف الشجر على السياج كما يفلق الفلاح رغيف خبزه الصباحي.. فيروز كانت تذكرة الغيم التي تحلّق في قلوبنا من غير مطارات ولا مواعيد إقلاع، لم تجامل زعيماً يوماً، ولم تُعر حنجرتها لطائفة، كيف ترضى أن تجامل في صوتها أو يطيعها مخمل اللحن لتغني ما لا يشبهها؟!

فيروز لنا نحن، اللاهثين وراء النقاء، العشاق المعتّقين، لطلاب الجامعات الذين يخوضون أولى تجارب العاطفة، لرواد المقاهي المتعبين الذين جاؤوا ليستريحوا على خشب الوقت، بعد أن أتعبهم الوقوف على أبواب الرزق.. فيروز للتاريخ ليست لـ«ريما» ولا لـ«زياد».. فيروز تشبه ذلك الندى الذي يترقرق على شفة الزهرة الرضيعة.. هي «طلعُ» الرحبانيين (منصور وعاصي) وليس سواهما.. هي تشبه استراحة الأيام بين فصلين طويلين.. تشبه أيلول الذي علقتنا به، وتشبه نيسان الذي يدق باب الصيف.. فيروز تشبه طلّة الشمس بين منخفضين جويين، دافئة وخجولة وعميقة الظهور.. فلا تجعلوا منها شمساً عادية كتلك التي تمر بقسوة في آب.. فيروز لنا، ملكنا جميعاً، لأنها الساعة الباكرة، ومنبّه الشوق، لأنها مزيج الصيف والشتاء، ومزاج الخريف وطبعُ الربيع.. حيث تغنّي توقف السنة دورانها ونقول: هذا فصل فيروز..

فيروز التي «ببالي».. لا تغيب ولا تتغير، لا تكبُر ولا تخبو.. فيروز سيمفونية الصباح، وابتهالات الكنار المعتكف في محراب الصنوبر.. سيدتي لا تظني أني أكتب إليك مقال عتبٍ.. بل هو مقال شوق وتعب.. كيف لا وأنت من علمنا أبجدية الحب، وأنت نشيد العاشقين.

هذا المقال سيدتي، مكتوب بأجنحة كل العصافير التي تشتاق أن ترفرف على سماء صوتك.. فسامحينا إن بالغنا في الاشتياق..

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

ahmedalzoubi@hotmail.com

تويتر