5 دقائق

زيارة المسجد الأقصى.. المقتضيات والمانع

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

قضيّةُ زيارة المسجد الأقصى أخذت قدراً كبيراً من النقاش الفقهي بين العلماء، أفراداً وجماعات، آخرها - ولعله ليس آخراً - في مجلس حكماء المسلمين في اجتماعه العاشر بالعاصمة أبوظبي، وقد انتهى إلى إرجاء البتّ فيها حتى مؤتمر القدس، الذي سيعقد في سبتمبر المقبل برعاية الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين.

• الشريعة الإسلامية جعلت المصلحة أهم مقاصدها، لاسيما في القضايا العامة.

وأرى هذه المسألة لم تعد محتاجة إلى نقاش بعد ظهور إيجابيات زيارته الكثيرة، الغالبة على مفسدتها الوحيدة، ومن إيجابياتها الشهيرة:

1- إشعار العدو المحتل بأن المسجد الأقصى هو مسجد المسلمين أجمعين، وأنهم لن يتركوه حبيساً محاصراً مدى الحياة، وسيتحرر إن شاء الله تعالى، كما تحرر أول مرة.

2- إحياءُ سنّة زيارته المهجورة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بسبب الاحتلال الغاشم، وإحياءُ السنّة المهجورة، سُنَّة لكل من قدر عليها، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة»، فالنبي صلى الله عليه وسلم، زاره في رحلته العظيمة، وحثّ على زيارته في أحاديثه الشهيرة.

3- دعم صمود الشعب الفلسطيني والمقدسيين، وبالذات الذين يعيشون مقاطعة اقتصادية من الصهاينة الذين ينتهكون حرمة المسجد الأقصى كل يوم، ويدعمون التجار اليهود، بينما يظل التجار المقدسيون ينتظرون من يشتري من أحدهم بفلس.

4- تكثير سواد المرابطين الذين هم في رباط إلى يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لاتزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء - أي مجاعة - حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»، فهي عون لهم على جهادهم، والمسلمون مأمورون بالتعاون على البر والتقوى.

5- إدحاض لمزاعم اليهود في معالم القدس، عن إرثهم المزعوم وتأريخهم فيه، التي يضللون بها الزوار الغربيين والشرقيين، فكلما كثر المسلمون ضعفت هذه التزييفات، وعلم الزائرون من غير المسلمين أحقية المسلمين فيه.

وأما المانع فهو خوف التطبيع مع العدو الصهيوني الغاصب، فإن مفسدته أقل من جلب المصلحة من الزيارة، أولاً لأن التطبيع لا يكون من الأفراد، بل من الدول، وبحمد الله فكثير من الدول العربية والإسلامية ترفض التطبيع سراً وعلناً، فلا تأثير لتطبيع الفرد إذا لم يكن ممنوعاً نظاماً من قبل دولته.

وثانياً لأن التطبيع الممنوع هو مع العدو الصهيوني، والمسلم لا يريد بزيارته إلا المسجد الأقصى، ولا يدعم إلا إخوانه المسلمين، دعماً حسياً ومعنوياً واقتصادياً، فهو في الحقيقة تطبيع مع إخوته في الدين، فهذه نية المسلم الزائر، و«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، كما صح في الحديث.

ثالثاً أن عدم زيارة المسلمين مفسدة محققة، حيث يتمكن العدو من زيادة بطشه بالمسلمين، وزيادة تغوُّله في المقدسات، بخلاف ما لو كان المسلمون موجودين، وبأعداد كثيرة ومن دول مختلفة، قد تكون لها علاقة بالعدو، فيحسب المحتل ألف حساب لتصرفه الطائش، فإذا امتنع المسلمون عن زيارته ودعم إخوانهم، فكأنهم يسلّمون المقدسات لأعدائهم وهم غافلون.

وهذه المعاني جعلت مجمع الفقه الإسلامي في دورته الـ22 بالكويت، يقرر استحباب زيارة القدس، إلا أنه ترك ذلك لتقرير ما تراه كل دولة لنفسها ومواطنيها، فعلم من ذلك أن التطبيع الذي تخوّف الناس منه فامتنعوا لأجله من زيارته، هو في الحقيقة مُنية المحتل، فقد تمكن من خلال هذه المقاطعة من أفاعيل منكرة بالتراث الإسلامي في القدس، ما كان له أن ينال منها لو أن المسلمين موجودون.

وإذا تقررت هذه المصالح، فإن الشريعة الإسلامية جعلت المصلحة أهم مقاصدها، لاسيما في القضايا العامة كهذه، فلا ينبغي إذاً أن تهدر المصلحة العامة، لدرء مفسدة موهومة.. وبالله التوفيق.

* كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر