5 دقائق

الثنائية.. شطر اللسان

عادل محمد الراشد

عندما قلنا ثنائية اللغة ضيّقنا واسعاً، فالعالم المتقدم مفتوح بلغاته وجامعاته وعلومه وإنجازاته وتجاربه، وكثير من دول هذا العالم تتقدم وتحقق فتوحاتها العلمية بلغاتها الأم، وليس بلسان مستورد ينازع لسان حالها، ويشتّت عقول أبنائها، ويبعّثر أفكارهم، فالتركيز باتجاه واحد، والتفكير بلغة واحدة دون أن يمنعهم ذلك من الانفتاح على اللغات والأفكار الأخرى، بعد أن يتمكنوا من لغتهم ووعائها الفكري، ويحملوا صورها في مخيلات أجيالهم، فلا تهزها رياح قادمة من شرق أو غرب، ولا تزعزع ثقتها بنفسها أفكار ومزاعم تسعى للنيل من تكوينها.

لاشك في أن اللغة الإنجليزية لغة مهمة في هذا العصر، ولاشك في أن الانفتاح على اللغات الحيّة الأخرى أهم، لكن الأهم هو اللغة الأم.

طبيب إماراتي، حصل على منحة من الدولة لاستكمال دراساته التخصصية في جامعة ألمانية، فاشترطت الجامعة عليه قضاء سنة لتعلم اللغة الألمانية قبل المباشرة في التخصص.. أين اللغة الإنجليزية التي قضى أكثر من 19 عاماً في دراستها، وأكثر من خمس سنوات أخرى وهو يمارسها في أحد مستشفياتنا؟ الجواب أن المستشفى الذي سيتلقى دراساته فيه لا يتحدث غير الألمانية، وعلى كل من يعمل أو يتدرب فيه أن يتحدث باللسان نفسه.

لاشك في أن اللغة الإنجليزية لغة مهمة في هذا العصر، ولاشك في أن الانفتاح على اللغات الحيّة الأخرى أهم، لكن الأهم هو اللغة الأم. هذا ليس كلامي، بل قول منظمة «اليونيسكو»، التي تطالب الدول، بما فيها جزر المحيط الهادي النائية، بإحياء لغاتها الأم، وتقديمها على سواها، لتكون لغة تفكير ونمط حياة، وليست ديكوراً تراثياً فقط. وعندما نقرر مبدأ ثنائية اللغة، فإننا نقرّ بمزاحمة لغة أخرى للغتنا الأم. وعقلان في رأس واحد يتوّهانه، لذلك نجد أن الكثير من الآباء والأمهات الآن تائهين في البحث عن أفضل الطرق لتعليم أبنائهم وبناتهم، ومحتارين في اختيار المدرسة والتعليم الأنسب، لذلك أصبح التعليم عندنا، وفي أغلب الدول العربية، سوقاً للمزايدة في نهب أولياء الأمور، تحت لافتات أجنبية توهم الناس بأنها الأفضل والأسرع في تعليم اللغة الإنجليزية، ولذلك صارت اللغة العربية منبوذة ومهجورة من قبل الأجيال الناشئة في مجتمعاتنا، التي أُوهمت بأن لغة آبائهم وأجدادهم لا تجاري التقدم، ولا تساير التحضر، ولا تضمن وظيفة، ولا «توكل عيش»، وهي باختصار لغة الماضي، الذي شبع ضرباً تحت الحزام، لنزعه من ذاكرة المستقبل.

النهضة والهوية مترادفان، والهوية واللغة أصلان في تشكيل الشخصية الوطنية، وبعد تجربة استلاب لغتنا من ألسنة وعقول نشئنا، تحت ضغط سوق العمل، حتى بتنا نرى أطفالاً شبه مهجنين، لم يعد عيباً مراجعة التجربة، وإعادة النظر في المصطلح ليكون «اللغة الأم»، بدلاً من «ثنائية اللغة».

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر