5 دقائق

الطمع هو الفقر الحاضر

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

إني لآسى على أولئك الذين بحَّ صوتي وأنا أحذرهم من الدخول في استثمار كنت أسميه «مشبوهاً» في بعض صوره، وحراماً في صور أخرى واضحة، وكنت أسمع جدالاً غير حسن أحياناً، ممن أنصحهم، بحجة أن مثل هذا الاستثمار مشهور، والناس استفادوا، والجهات المعنية تعلمه... وكأنهم سماسرة، وها هم قد وقعوا في فخِّ الطمع الذي كانوا عنه يجادلون، فكان حالي مع أولئك ما قاله طرفة بن العبد: «ولم يَستبينوا الرُّشْد إلا ضحى الغدِ». ولكن ماذا ينفع التبيُّن «بعد خراب البصرة»، كما يقول المثل؟! إلا أنه قد ينفع مستقبلاً، وهذا أمل، مع أن المُثل السابقة لم تؤخذ بعين الاعتبار، لشدة الشره، وكثرة الإغراء، وقوة الدعاية التي فعلت فعلها الخطير.

وقد ثبت في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أوصني وأوجز، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: «عليك باليأس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصلِّ صلاتك وأنت مودع، وإياك وما تعتذر منه».

ففي الحديث الشريف فوائد كثيرة؛ منها النهي عن الطمع، وسماه النبي، صلى الله عليه وسلم: الفقر الحاضر، لأن الغِنى في الحقيقة ليس هو كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس، كما ورد، ولأن ذلكم الطمع قد يجلب الفقر بمثل هذا الشره في استثمارٍ لا أصل له، وأثبتت التجارب أن عاقبة أمره خُسراً، فإن من باع سيارته خسرها، ومن قدم ماله مباشرة لينال رباً كثيراً مُحق ماله، ومن اشترى من المعرض وأعاد ما اشتراه خسر كذلك، لوقوعه في عكس العينة المحرم، ومن اشترى من الخارج ليبيعه للمستثمر آبَ بالخسران.. وهكذا تحقق الفقر الحاضر الذي حذر منه النبي، صلى الله عليه وسلم، وسبب ذاك هو الطمع الذي أعمى وأصم، وكان بوسع الجميع أن يتأسى بالحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، القائل: «وإن روح الأمين نفث في رُوعي ــ أي خاطري ونفسي ــ أنه ليس من نفس تموت إلا وقد كتب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بالمعاصي، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته».

إن الإسلام يدعو إلى السعي في الأرض والاتجار في العُروض، وطلب الرزق الحلال من وجهه، وأمر كذلك بالصبر على مكابدة المعايش، كل ذلك لأنه يتعامل مع واقع الحياة وسنّتها المألوفة، فمن أراد الخروج على ذلكم الهدي أو يسلك غير ذلكم السنن المعهود يندم ندماً شديداً، ولكن «ولات حين مندم»، وها نحن نرى ونسمع مثل ذلك، ولكن لا نملك لهم من الأمر شيئاً، وكأني بأبي الفتح الشهرستاني يحكي وضعهم بقوله:

فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ ...

على ذَقنٍ أو قارعاً سن نادمِ

ونحن نأسى عليهم كثيراً، لأني سمعت من بعضهم ما يدل على بساطة حالهم وقلة دخلهم، فأرادوا أن يتبحبحوا ويتوسعوا، فاشتركوا رَغَباً، وقد كانوا ربحوا في الجولة الأولى، فازداد طمعهم، فدخلوا في الجولة الثانية، فحلت بهم الكارثة التي يئنِّون الآن من وطأتها.

ولعمرو الله، لو لم تتدخل الجهات المعنية، الحازمة، الحكيمة، لاستفحل الأمر، وانتشر الشرر، ولعادت كارثة البوم وأخواتها الشهيرات، ولأصبح كثير من الناس في أبواب المحسنين والجمعيات لسداد حاجاتهم، ولكن «حنانيك بعضُ الشر أهونُ من بعض»، كما قال طَرفة.

وهنا أقدم النصيحة القصيرة:

أولاً: على المسلم أن يتقي الله تعالى، ويطلب الحلال الذي لا شبهة فيه، وينأى عن الحرام الصرف الصريح، فإن الله تعالى يبارك في القليل الحلال فينفع، ويمحق الكثير غير الحلال أو المشتبه فيه حساً ومعنى، كما أخبر سبحانه.

ثانياً: مراعاة النُّظُم التي وضعت لمصلحة الناس وحمايتهم، فإن الاستثمار محاط بتشريعات حازمة، مهما ظُن بها غير ذلك، فإنه يكون ظناً خاطئاً.

«والله يقول الحق وهو يهدي السبيل».

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر