5 دقائق

حضارة الجزيرة العربية ومقومات عودتها

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الأمةُ العربية أمةُ حضارة عريقة، يعرفها التاريخ، وتتحدث عنها المصادر، وتبرهن عليها الاكتشافات المتتالية في مختلف البلاد العربية، وقد تحدث القرآن الكريم عن شيء من ذلك، كحضارة عاد إرم، وهي عادٌ الثانية، التي قال الله تعالى عنها: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾. وقد ذكر بعض المفسرين والمحدثين عن تفصيلها بما يجِلُّ عن الوصف، وقد لا تصل حضارة اليوم إلى مثل ذلك، وحمل العرب الفاتحون حضارتهم إلى البلاد التي فتحوها، فجعلوا بلاد الأندلس جنة الله في أرضه، ولاتزال كذلك إلى يومنا هذا، وبلاد الرافدين منبع العلم، وبلاد الشام جنة خضراء، في الوقت الذي لم يكن للغرب فيه حضارة تذكر، بل كانت غارقة في الوحل، كما يقول المؤرخون.

ولم تقتصر حضارة العرب على الأطلال، بل للحضارة مقومات لابد منها، أهمها: النظم المحكمة، والعدالة الاجتماعية، والقيم الخُلقية الكاملة، وهي تعتبر من ثوابت الإسلام التي جاء بها على ما كان لها في الجاهلية من أصل.

ولما جاء الإسلام بنظام محكم للدين والدنيا، وللفرد والمجتمع، وللسلم والحرب، وجعل الناس سواسية في هذه النظم، قبله العرب وطبقوه رغَباً ورَهباً، فاستقامت لهم الدنيا على ساق، وحملوا رسالة الإسلام للعالم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً؛ لِمَا رأوا من صدقه وواقعيته، وما كان الإسلام لينتشر بين خِضمِّ الديانات السماوية والوضعية، لولا تلك القيم، فلم تستطع قوى الأرض أن تمنع انتشاره، أو تحُدَّ من رغبة الناس فيه، فما تمت مائة عام حتى وصل المشارق والمغارب.

• دخل الناس في دين الله أفواجا؛ لِمَا رأوا من صدقه وواقعيته.

وانتشر ت مقومات الحضارة إلى البلدان المفتوحة، فعرف الناس معنى الحضارة ذات القيم العالية، ومعها المعارف العلمية في كل الفنون التي نفعت البشرية، طباً وفلكاً وجبراً وجغرافياً وبصريات وفضاء، وغير ذلك، وحسبُك أن تعلم أن الاختراعات الإسلامية في عصرها الحضاري الزاهي نافت على ألف اختراع، كانت فاتحة لآفاق الصناعة الحديثة.

نعم. نحن نقر بركود آنِيٍّ لتلك الحضارة، بسبب ما حلَّ بالأمة من ويلات وغزوات تترية وصليبية، كرة بعد أخرى، أثّرت في الزخم المعرفي، والتطور الصناعي، ما جعل الأمة تلملم جراحاتها، فاستغرقت وقتاً ليس بقصير.

واليومَ وقد أتيحت لنا مفاتيح العلم، وتيسر لنا السبيل التقني، فلابد أن نعيد مجدنا التليد من آخر ما توصلت إليه حضارة اليوم، ونقول كما قال المتوكل الليثي:

لسنا وإنْ أحسابُنا كرُمت يوما على الأحساب نتكلُ

نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعلُ مثلما فعلوا

نعم. نبني ونعيد ما اندثر من مجد حضاري، وأولُه البناء الأخلاقي الذي يجعل الإنسان ذا قيمة، أينما حل وارتحل، ويجعل بلده مثوى النوع الإنساني الباحث عن السعادة والرفاه، ويتلو ذلك نُظم العدالة التي تحمي المكتسبات والحريات، وتجعل الكل سواسية في المعيار المجتمعي المتمدن.

ومثل هذه النظم تزخر بها الإمارات العربية المتحدة، فلذلك لا غرابة أن يقوم رائد النهضة الحضارية العربية، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ــ حفظه الله ــ ليُنظِّر مِن واقع تجربته الرائدة لحضارتنا المنشودة التي كانت، ولابد أن تعود بأبهى صورها، وأفضل أحوالها.

ولدينا بشارة نبوية بذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً».

فهو صلى الله عليه وسلم يخبر بعودة حضارة الرفاهية، والعود لا يكون إلا عن بدء، ولتأكيد عودتها قال صلى الله عليه وسلم: «يوشك، يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هاهنا قد مُلئ جنانا»، وكان يشير إلى شمال الجزيرة العربية، تبوك وما حولها.

فعلى الأمة أن تنهض مع رائد النهضة، وتؤسس لقِيمها كما أسس ويؤسس.

حفظ الله سموه ورعاه، وبلغه منتهى مناه، في دينه ودنياه.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر