5 دقائق

الدولة الوطنية في المجتمعات المسلمة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

عقد منتدى تعزيز السِّلم دورته الثالثة في العاصمة أبوظبي يومي 18-19 من الشهر الجاري، بعنوان المقال، وقد كان منتدى رائعاً في موضوعه وأطروحاته، أما موضوعه فهو من الأهمية بمكان، ولو أنه كان سابقاً لأحداث الأمة المؤلمة لكان سبباً لدرء الفتنة قبل وقوعها، وسعادة الشعوب قبل ضياعها، ووحدة الصف قبل تمزقه، ذلكم أن هذا الموضوع هو المحرك الأساس لرؤوس الفتنة التي هدفت لتمزيق الشمل بمسمى جمعه تحت خلافة واحدة، فأخطأت طريق الهداية، حيث جعلت الوسيلة مبرراً للوصول إلى الغاية، مع أن الغاية لا تبرر الوسيلة، كما تقول القاعدة الذهبية في وجهها الصحيح، وسبب ذلكم السعي البائر هو عدم معرفة الحكم الشرعي لمفهوم الخلافة، فإنه في حقيقته حكم فرعي ليس من أصول العقائد، وحكم غير مؤطر بأسلوب لا يختلف، بل هو متروك لأهل الحل والعقد ليختاروا أسلوبه عند الحاجة إليه، وذلك حينما ينكشف منصب الولاية، لا وهي قائمة عامرة، فذلك مما لا يجيزه شرع، ولا يقبله فقه ولا عقل، فلما غاب هذا الفقه لغياب نبلاء العلماء وسادات الفقهاء، وسادت رويبضة الناس، سعوا إلى حتف الأمة بظلفها، وألحقوا الدمار بأسودها وأبيضها، فلو أن هذا الموضوع كان مطروحاً منذ زمن لبقي شمل الأمة مجتمعاً، وخيرها وافراً، وقوتها رادعة، واقتصادها زاهراً، ولعل في تأخره عن الأحداث الدامية المؤلمة ما يرشحه ليكون أقوى للقبول والتطبيق، حيث قد جرّبت الشعوب ما كان يمكن أن تنكره في هذا الطرح، فتعلم أنه هو الحق المبين.

أما أطروحاته فقد كانت متميزة، لاسيما الورقة التصويرية لرئيس المنتدى، سماحة العلامة الإمام عبدالله بن بيَّه، حفظه الله وأدام به النفع، فقد كانت تأصيلية فقهية ومقاصدية، حيث حشدت النصوص النقلية والدلائل العقلية لمفهوم الدولة، وأنها واسعة المضمون، تشمل طوائف المواطنين، وإن اختلفت أعراقهم ودياناتهم، فإن الكل ممن يشمله ظل السلطان، ويحميه عدله، فكرامته مصونة، وحقوقه محفوظة، وان صبغ الدولة ككيان اعتباري بصبغة الإسلام ليس من مسمياتها قديماً، وإن كان شكلها كذلك واقعاً تطبيقياً، وهو ما يكون حاصلاً في بعض الدول التي تتخذ من الإسلام منهجاً للتشريع والتعامل.

وعلى هذا المنوال سارت كلمات المشاركين من حيث مفهوم الدولة الوطنية في العصر الحاضر، وما يتعين التعايش به بين أفراد الوطن الواحد، وقد كان مستند ذلك ما تضمنه إعلان مراكش الصادر بداية هذا العام، والذي أصبح مرجعاً وثائقياً لدى كثير من المحافل الدولية، وهو مؤصل بصحيفة المدينة التي وضعها النبي، صلى الله عليه وسلم، عند مقدمه المدينة المنورة، فكانت عبارة عن دستور المواطنة بالمفهوم المعاصر، وهي أصل النظام المدني الإسلامي العظيم، وقد غاب هذا التأصيل عن كثير من أدعياء العلم، الذين كانوا سبباً لفتنة الأمة وتحميلها وزرهم، وهي بمجموعها بريئة كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.

كما أن الكلمات التنظيرية قد وجدت من الأمثلة الحية لتطبيق مفهوم الدولة الوطنية في المجتمع المسلم؛ إنه أنموذج دولة الإمارات الذي عبّرت عنه وزيرة الدولة للتسامح بقولها «إن دولة الإمارات ملتزمة بالعديد من المواثيق الدولية المرتبطة بالتسامح والتعايش والسلام ونبذ العنف والكراهية والتطرف والعنصرية، وتحرص دوماً على الالتزام بحقوق الإنسان، واحترام الأديان والملل والأجناس، والقبول بالآخر فكرياً وثقافياً ودينياً وطائفياً». فكان هذا الأنموذج الأمثل تجسيداً حقيقياً لما يهدف إليه المنتدى من سعيه الدؤوب للسلم والمسالمة، تحقيقاً لمقصد الإسلام الأساس من السلِّم والوئام بين طوائف البشر، حتى يتحقق الاستخلاف الحقيقي في الأرض، وتكون معه معرفة الله تعالى بالإيمان وعبادته بما شرع سبحانه.

وهو ما أشار إليه الشيخ نهيان بن مبارك، وزير الثقافة، في كلمته الترحيبية والتأصيلية الرائعة بقوله: «إننا نمثل دولة وطنية ناجحة بكل المقاييس، هي الآن في نظر الجميع النموذج العالمي المرموق، لا نقول فقط في البناء والاستقرار، بل أيضاً في الازدهار والرخاء».

فليتدرع الجميع لباس الدولة الوطنية الساتر الجابر الفاخر، حتى يعيشوا في وئام وسلام.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر