5 دقائق

مولد النور

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لا يختلف المسلمون والمنصفون من غيرهم على أن ولادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كانت حدثاً عظيماً، ومفتاحاً لتغيُّر ديموغرافية الإنسان، لينتقل من عابد للأوثان إلى عابد للرحمن، سبحانه وتعالى، وقد شهدت بذلك بعض المظاهر الكونية التي دلت عليها الأحاديث النبوية، والأخبار السِّيَرية، وقد سمى الله تعالى مجيئه، عليه الصلاة والسلام، نوراً، كما في قوله سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، قال ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين: يعني بالنور: محمداً صلى الله عليه وسلم، الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبين الحق.

والتعبير بالمجيء ينبئ عن الذات بولادته، عليه الصلاة والسلام، وبالصفات التي حلَّاهُ الله بها ليرشحه لحمل الرسالة بعد ذلك، وقد توالت الآيات الكريمات في نعته بالنور، والنور عَرَض لا يقوم إلا بذات، وهو ما كان عليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، من نورانية الذات، ونورانية الهداية.

وقد كانت البشرية على موعد من حدوث مولده بعد انقطاع النبوة لأكثر من خمسة قرون، وضياع المِلَّة الحنيفية بما دخل عليها من الوثنية، فكان الكهان يتربصون، لما لديهم من كهانات، والحنفاء يتوقعون لما يرونه من الضلالات، وهم يدركون أن الله لن يترك عباده بغير حجة قائمة، ودلالة راشدة، وكان أهل الكتاب يستفتحون به قبل مجيئه ـ أي يتوسلون به لينتصروا ـ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، حسداً وبغياً من عند أنفسهم، وكان متكبرو أهل الأوثان الذين يزِنون الأمور بمقاييس الدنيا وعقولهم القاصرة، كانوا يرون أن الأولى بالرسالة من كان له مال وبنون وعظمة من أهل القريتين ـ مكة أو الطائف ـ ولم يعلموا أن الله يجتبي من يشاء ويختار، وأن للرسالة صفاتٍ يضعها الله في من يشاء، فينشّئه عليها حتى يحملها، وكان ذلك الذي تولاه الله بعنايته وعينه، وكلأه برعايته وهدايته، وطهره من رجس الجاهلية، واصطفاه من سلالة إبراهيم، ثم أوحى إليه بملَّته لتبقى الحنيفية عامرة بالأرض، غير مدنسة بتشويه اليهودية وتجسيمها، وتخريف النصرانية وضلالها، كان هو محمد بن عبدالله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

لقد كانت ولادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شهر ربيع الأول من عام الفيل، وكان صلى الله عليه وسلم يحتفي بهذه الولادة الميمونة، فيشكر الله عليها بالصيام، ويخبر بما جرى عند نبوته من آيات عظام، وكان العباس عمه، رضي الله عنه، يتذكر ذلك الزمان والمكان، ويقول:

من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورقُ

إلى أن يقول:

وأنت لما وُلدتَ أشرقت الأرض وضـــــــــــــــــــــــــــــاءت بنورك الأفقُ

فنحن في ذلك الضياء وفي النـــــــــــــــــــــــــــــــور وسُبْل الرشاد نخترقُ

وهو أول احتفاء بمولده الشريف.

نعم، إن شهر ربيع الأول يُذكِّر العالم الإسلامي بمنقذه من الضلال، وهاديه إلى الرشاد، وداعيه إلى صراط الله العزيز الحميد، يتذكره فيحيون ذكراه بما يختلج في صدورهم من محبة وتعلق، وما يريدونه من اتباع واقتفاء، وما يبتغونه من شفاعة، وما يرجونه من لقاء، وما يأملونه من سقيا من يده الشريفة وحوضه الكريم، وذلك لأن ذكرى الحدث لها أثر في النفس، لتذكر نعمة الله تعالى برسالته وشرعه، تلك الرسالة التي أخرجتهم من الظلام إلى النور، ومن الجهالة إلى العلم، ومن الحيرة إلى الرشاد، ويعبر كل بما يكنه في صدره من تعلق وتعزير وتوقير، بما لا يخرجه عن أدب الشرع وهدي الإسلام، فيقرأون سيرته، وشمائله، ويحيون مجالسهم بذكر الله والصلاة والسلام عليه، وينشدون من الشعر ما كان يحبه ويثيب عليه، وكل ذلك مما لا ينكر، ولكن لا ينبغي أن يكون في ربيع واحد، بل في كل الأوقات، حتى يعرف المسلمون رسولهم، ويكونوا به مقتدين، وبحبل الله معتصمين.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر