5 دقائق

وداعاً أيها العام ومرحباً بصنوه القادم

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

بعد يوم أو يومين نودّع عامنا الهجري الذي عشناه بحلوه ومرّه، وخيره وشرّه، واجتماعه وفرقته، وهو عمرنا الحقيقي الذي متّعنا الله تعالى به مِنّةً منه وفضلاً، كما قال سبحانه ممتناً {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}.

• يقف كل عاقل ليستجلي هذه الحِقبة الزمنية من العمر؛ فيعرف أنه كان في رحلة سفر ومازال لم يصل إلى المنتهى.

لقد كان مطية صالحة لنا، عبرنا من خلالها مرحلة زمنية من عمر كتبه الله لنا، هو في الأصل لمعرفته بالإيمان، ولإقامة العبودية له سبحانه بما شرع، وأعاننا على ذلك بما يسّره لنا من عمارة الأرض ليسهل علينا الاستخلاف فيها، فها نحن نودّع سنة هي 354 يوماً و8496 ساعة، وليس في شيء منها وقت يذهب من غير مساءلة، إلا لمن لم يجرِ عليه قلم التكليف، وبعد هذه الرحلة التي هي كبيرة في العدد، لكنها كانت كغمضة العين في حساب ربنا سبحانه، يقف كل عاقل ليستجلي هذه الحِقبة الزمنية من العمر؛ فيعرف أنه كان في رحلة سفر ومازال لم يصل إلى المنتهى، فهل صحب في سفره هذا بما يعتبر عدّة ومؤنة للحياة الآخرة القادمة لا محالة، الدائمة بلا فناء؟! تلكم الدار التي ليس فيها عمل، إنما هي ثمرة عمل الدنيا، فمن كان يعمرها بما يصلح للسكنى فيها فقد طاب مسعاه، كما قال الله جل ذكره {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وهو المعنى الذي عبر عنه الشاعر بقوله:

فإن بناها بخير طاب مسكنُه وإن بناها بشرّ خاب بانيها

هكذا هي الحياة:

تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر

فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى ولا ذاهب هذا المشيب المكدر

ومع وقوفنا متأملين عمرنا الماضي، فليس ذلك للندم، فإنه لات حين مندم، وإنما لأخذ العبرة من سرعة تقضي الزمان، فكل واحد منا يقرأ قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}، وهذا القرب ملموس بسرعة تقضي الزمان، ولكنه غير مدروس في الاستفادة منه لكثير من الناس، يستوي في ذلك أهل الدين والدنيا، والمتعين هو الاستفادة منه كلٌّ بما

هو ميسّر له، وإن كانت الاستفادة الحقيقية هي في عمارته بما ينفع في الدار الآخرة، إلا أن الاستفادة منه لما ينفع في الدنيا هو أيضاً مطلوب ليكون عوناً للنفس على البقاء وعوناً للآخرين.

لكن الذي يؤلم ويؤرق هو هدم الدنيا والدين بهذه الفتن التي هي أشبه بنار جهنم التي وقودها الناس والحجارة، فها هي الدنيا تدمر بتدمير مدن عن بكرة أبيها، ودول تمزق أيادي سبأ، وشعوب تفرق شِيعاً وأحزاباً، وصوامعُ وبيعُ ومساجدُ تهدم على من فيها، كل ذلك في طريق فناء الدنيا العام، ولكن هذا بفعل البشر الذين خلقت لهم الدنيا فعقُّوها، وظنوا أنهم يحسنون صنعاً، وأنها ستصفو لهم بعد ذلك، وهيهات هيهات لما يوعدون.

والدين كذلك يهدم بفعل السفهاء الذين يعيثون في الأرض فساداً{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}، فهل بقيت لهم بقية من دين وقد استحلوا الدماء، واستباحوا الأموال والأعراض، وأخافوا السبيل وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.. أمور كلها تجعل الأسى مخيّماً على سنتنا الماضية.

فهل يا ترى ستكون سنتنا القادمة أحسن حالاً وأقوم قيلا؟ ذلك ما نرجوه ونؤمله ونظن بالله خيراً أن يغير حال الأمة إلى أحسنه وأفضله وأرشده، ولا يكون ذلك إلا بالاتعاظ بالماضي والتخطيط الحكيم للمستقبل الأخروي والدنيوي، الأخروي بما يصلح له، والدنيوي بما يصلح له كذلك، وكلّ مطالب بحسن العمل للدارين على حد سواء، ولكن على هدي من الشرع قويم، وبصر من العقل سليم، والله هو المستعان وعليه التكلان.


* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر