5 دقائق

الإرهاب المصنوع

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لم يعد هناك مكان آمن يعيش بمنأى عن الإرهاب؛ فالأقارب يذبحون، ومساجد الله الآمنة تفجر، وكذا المنازل والأسواق والسيارات والمستشفيات.. وأخيراً حرم رسول الله وجوار حجراته التي نهى الله تعالى أن ترفع عندها الأصوات، وفي مهبط الوحي حيث تنزلت الملائكة والروح والقرآن، حيث قامت دولة الإسلام وشع نورها في الآفاق، وما ندري ما وراء ذلك من أهوال؟! الكل يندد ويشجب ويدعو ويتوعد وينكر، بل القلوب الحية تبكي وهي بمنأى لجراحات القلوب التي أصابت الجميع كما أصابت الأجساد التي تواجدت، وكل هذا طيب ومطلوب، غير أن هذا لا يوقف سيل الإجرام وزَبده الذي لا يرام، إنما الذي يوقفه هو معالجة الفكر الذي استحل التكفير، وولد التفجير وتبنّى الشر المستطير؛ الفكر العقدي الإقصائي الأناني المدعي الأحدية لنفسه النابذ لغيره، المتسلط على الغير، النابذ للتراث الفقهي، ذلكم الفكر الخارجي أو الرافضي أو الشعوبي - كله صحيح - هو الذي تتعين معالجته حتى تؤمن غائلته، ومع كل ما نرى ونسمع فإننا لم نلمس عملاً مباشراً لمعالجته، مع علم الجميع علماً ضرورياً أن استئصال هذا الإجرام لا يكون إلا باستئصال تلكم الأفكار المأفونة، غير أن هذا العلم الضروري مازال نظرياً لم ينزل إلى التطبيقي، فما يحدث في العراق من طرفي النزاع هو نتاج ذلكم الفكر، وما يحدث في بلاد الحرمين واليمن وسورية وتونس وليبيا ومصر والصومال.. هو كذلك، مع كل ذلك فلم يتعظ أحد من كل ما يحدث، والكل يريد استئصال شأفته بقوة السلاح فلا يزيد إلا دماراً، ومع أن هذا الأسلوب مطلوب لمن تخندق واستعد للإرهاب، لأن القتل أنفى للقتل، إلا أنه لا يعالج المشكلة جذرياً، فإن نبع ذلكم الفكر ينتج مخرجات جديدة، وبأساليب مبتكرة مباغتة، ويبقى الجميع في دوامة لا تنتهي، وحلقة مفرغة، ولو أن الاهتمام بتصحيح الفكر كان كبيراً وكافياً لكفينا هذا البلاء، ووقينا الكثير من الردى.

• تصحيح ذلكم الفكر المنحرف يبدأ من النشأة الأولى للتعليم، فالكتب التي تغذي عقولهم معروفة ومتداولة بكل شفافية وحرية.

إن تصحيح ذلكم الفكر المنحرف يبدأ من النشأة الأولى للتعليم، فالكتب التي تغذي عقولهم معروفة ومتداولة بكل شفافية وحرية، والمدارس التي تخرج هذا الفكر مشرعة أبوابها تستقطب الناشئة، والعقول الموجهة المشحونة بهذا التوجه لاتزال معتمدة بل محترمة، بيدها الحل والعقد، والانتماءات السياسية التي تسخر هذا التوجه لصالحها هي كذلك في الميدان عاملة.. فكيف يتحقق مع كل ذلك أمان ووئام، وتعايش بسلام؟! هيهات أن يدرك ذلك، والنصح لله ولولاة الأمر وللمسلمين عامتهم وخاصتهم، يقتضي أن يقوم كل واحد بمعالجة هذا الشر المستشري بما أوتيه من قدرة بنفسه، فرب الأسرة يقدر على أن يمنع من له عليه ولاية من قراءة أو مجالسة أو سماع أو موالاة أرباب هذا التوجه، والمجتمع الذي يرى من يقترب من ذلكم الخطر يقدر على أن يمنعه بيده أو بتبليغ جهة الاختصاص، فإن هؤلاء يعيشون في المجتمع ولم يهبطوا من السماء، ولا بد أن يُعرفوا في لحن القول أو بشكل المظهر، والكتب التي تروج لهذا الفكر معروفة ومتداولة ومع ذلك هي في متناول الأيدي وبأرخص الأثمان، والأدهى والأمرّ شبكات التواصل الاجتماعي التي هي في قبضة المؤسسات الرسمية هي الحاضن الأهم لهذه الأفكار والمروجة لها، ومع ذلك فلا تقوم بواجبها، مع قدرتها فعل الكثير، وبالجهد اليسير، وهكذا نرى الكل متخاذلاً عن القيام بواجبه نحو محاربة هذا الفكر الضال، فإذا وقعت الواقعة التي تقض المضاجع نكفكف الدموع ونسترجع ونحوقل ونحتسب الأجر عند الله، وذلك شأن العاجز الذي لا حول له ولا طول، ولعل الجميع لا يسلم من المسؤولية عند الله وعند الناس، وهي شديدة، فإن الناقد بصير والحساب عسير، وإلى الله تصير الأمور.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر