لحظة

المُصالحة مع المُصْطَلَح

ياسر حارب

في مشروعه القديم المُتجدد، يسعى الشيخ عبدالله بن بيّه، الفقيه الأصولي، وأحد كبار المناطِقة المسلمين في هذا الزمان، إلى إعادة تعريف المصطَلَحات الملتبسة في الثقافة الإسلامية اليوم، كالمنطق والفلسفة والعقل والبرهان وغيرها، فما أن تُذكر هذه المصطلحات حتى يجد صغار المتعلمين ألف سهم يرمونها بها من أقواس جهلهم، فيصفونها بالمُضلِّة، والمخادعة، والمفسِدة، وغيرها من الكلمات التي يكتظ بها قاموس الجهل العربي الإسلامي اليوم.

ولهذا يعتقد الشيخ بن بيّه أنه علينا قبل أن نبدأ بتدريس المنطق والفلسفة وعلم الكلام، أن نعيد تعريف هذه المصطلحات بقواميس الواقع وأدواته، لا بالعودة بها عبر الزمن، فالواقع هو الحقيقة المطلقة التي ينبغي أن نتعامل معها، لا بمحاولة تغييرها، بل بالتأقلم مع متطلباتها، والواقع يقول إن العقل العربي الإسلامي يعاني تقديساً وتكريساً لجهل تراكم عليه عبر العقود الماضية، وكلنا يعرف ماذا فعلت الأفكار «الصحوية» والحركات الأصولية وحركات الإسلام السياسي بمناهجنا وصحافتنا وإعلامنا بشكل عام. وإذا أردنا أن نُبدد ظلام الجهل، ونطرد أفكاره من داخل الرؤوس، فنحتاج أن نبدأ بعقد مصالحة مع المنطق والفلسفة، حتى لا يجد دارسوها شيئاً في نفوسهم منها، كونها موجودة الآن في قفص الاتهام. ولكي نُسهّل فعل ذلك في المدارس والجامعات، فإننا في حاجة إلى الاستفادة من التجارب الفلسفية في التاريخ الإسلامي، لأن عقولنا تحب اجترار الماضي، وعندما تقرأ عن الكندي والفارابي وابن سينا والجويني والغزالي وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة والمُتكلّمين، فإنها ستجد عذراً للفلسفة، وعزاء لاستخدام المنطق كونه كان مُتاحاً ومستخدماً من قِبَل الأولين. جدير بالذكر أن الغزالي الذي هاجم الفارابي وابن سينا جاء بعدهما ولم يعاصرهما، حتى هما لم يتعاصرا. وابن رشد الذي رد على الغزالي لم يعاصره كذلك، إلا أن الحضارة الإسلامية عندما كانت أفكارها متنوعة، كانت ولّادة للفكر، وصانعة للإنسان العصري، وما أسوأ الأمة عندما لا تحترم إلا رأياً واحداً، ولا تقبل إلا قولاً واحداً!

عندما أنظر في مناهج أطفالي المدرسية أشعر بالحسرة على الوقت الذي يقضونه في دراستها، ولذلك فإنني أشجعهم دائماً على الاطلاع والقراءة في كتب أخرى، وأطرح عليهم بعض المسائل الفكرية البسيطة، وأدفعهم لتحليلها وإبداء آرائهم فيها، فمناهجنا فشلت حتى في تعليمهم كيف يحفظون، ولهذا، فإن أبناءنا صاروا عرضة اليوم لأفكار مثل المثلية الجنسية، والإلحاد، دون أن تكون لديهم أدنى الوسائل العقلية والمنطقية للتعامل مع هذه الموجات الكونية الهائلة التي تكاد تطبق علينا في السنوات المقبلة.

الحل إذن هو أن نُبيّن لأبنائنا أن المنطق والفلسفة ليسا حراماً، بل صارا من الموجبات الحضارية، وأشبه بسفينة نوح للعقول المسلمة حتى تعبر بها طوفان الأفكار العالمية الجديدة، فإما هذا أو تغرق الأجيال المقبلة، ومناهجنا مازالت تُكرر على مسامعهم: «البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير».

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر