5 دقائق

أزقة زيورخ و«سكيكنا»

عادل محمد الراشد

في زيارة سابقة، مضى عليها 32 عاماً إلى مدينة زيورخ، قادتنا المرافقة المكلفة من قبل وزارة الخارجية السويسرية، إلى المنطقة القديمة التي تعود إلى العصور الوسطى، بمبانيها المتلاصقة وأزقتها الضيقة، وقد بدا المكان كأنه لوحة بلون التاريخ، ورائحة المكان، ورحابة خيال الإنسان، ذلك الإنسان الذي أنشأ وبنى، وهذا الإنسان الذي حفظ الميراث، ثم أضاف إليه لمسات تشير إلى تناغم في تعاقب الأجيال، وانسجام مع تحولات الزمن بلا ضرر ولا ضرار، لذلك غدا المكان جاذباً، تتزاحم فيه الأفواج السياحية، ويلوذ إليه أهل البلاد، كلما أرادوا كسر احتكار الحداثة لنفوسهم، ومتابعة التواصل مع ماضيهم وأصل ثقافتهم.

في بلادنا زحفت الحداثة على كل شيء تقريباً، ولم تبق إلا رموز متفرقة للقديم.

وبالقدر نفسه ترى الأحياء والمناطق القديمة، في معظم المدن الأوروبية، وغيرها من حواضر العالم الكبرى، وربما تصيب الزائر لأول مرة إلى إحدى المدن الإيطالية الدهشة، وهو يرى محال ذات علامات تجارية كبرى، ومطاعم فاخرة، ومقاهي عالمية، قد تقابلت واجهاتها في زقاق ضيق بأحد الأحياء القديمة، لتصبح الحياة متواصلة بحركة دؤوبة، لم تنشغل بالجديد، وتدير ظهرها للقديم.

في بلادنا زحفت الحداثة على كل شيء تقريباً، ولم تبق إلا رموز متفرقة للقديم، لا تكاد تشكل في مجموعها لوحة متناسقة الخطوط ومتجانسة الألوان، لا لجذب السائحين فقط، وإنما لترك وسائل إيضاح حية للأجيال، كي لا تتنافر في ما بينها، ولا تجهل عطاءات ماضيها. بل حتى داخل الأحياء الحديثة والرحبة، التي انتقل إليها المواطنون تاركين بيوت آبائهم، وأحياءهم المليئة بالحكايات التي تشكل ذاكرة المكان، تحولت «السكيك» والممرات الفاصلة بين المساكن والمباني، إلى أمكنة لتراكم الأتربة، ونمو النباتات الطفيلية، وربما إلى باب خلفي قد تتسلل منه المحظورات.

تخيلت لو أن هذه الأزقة قد فرشت بالحجر، وأضيئت بالأنوار، وتزينت بالنظافة، لربما أصبحت مضامير مشي وتريض قريبة من المساكن، وآمنة من خطر السيارات وسموم عوادمها، أو طرقاً جانبية تؤدي الغرض منها في خدمة السكان، ثم تكون على الأقل عنصراً جمالياً يكمل المشهد العام لأحيائنا وفللنا ذات الواجهات الفخمة، وربما تصبح في قادم الأيام مزارات سياحية، تحكي قصة الإنسان في هذا المكان.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر