أبواب

ما تنظر إليه وما تراه

جمال الشحي

ما الذي تراه؟ عندما تتعمّق في النظر إلى منظر طبيعيّ أو لوحة لفتت انتباهك أو مشهد عابر شدّ اهتمامك؟

عمق الشخصية الإنسانية يجعل من الصعب اكتشاف أغوارها من نظرة واحدة أو محادثة سريعة. البشر ليسوا كتباً مفتوحة كما يقال! لابد أن تقرأ الكتاب كاملاً حتى تستطيع أن تفهم محتوياته، ومضامينه كما يجب.

يقول الكاتب الفيلسوف هنري ديفيد ثورو: «ليس مهماً ما تنظر إليه بل ما تراه». هناك أشياء خلف المشهد، أو أبعد من سطح الصورة، لابد أن نتأملها بحق ونراها بصدق، ونتعمق في قراءتها، فما ننظر إليه أحياناً يمثّل جزءاً يسيراً من الحقيقة، أما الأجزاء الباقية فمخفية، وإذا أردنا معرفتها يتعين علينا التأني في رؤيتها، والتبحر في قراءتها، والتأمل بدلالاتها وتأويلاتها؛ لأن الأشياء ليست دائماً مبتورة أو مستقلة تمام الاستقلال، وإنما هي في الغالب يكمل بعضها بعضاً، لذلك علينا التروي والتبصر بالأشياء قبل القطع بدلالاتها.

الكاتب المعروف ثورو كتب مقولته المشهورة هذه في القرن التاسع عشر، أي قبل النقلة العلمية في علم البصريات، واكتشاف نظريات علمية مهمة في مجال الوهم البصري، وهنا تكمن أهمية رؤية الكاتب، فهي تحاكي ظاهرة الخداع البصري قبل اكتشافها، وتتلاقى معها في نقاط عدة.

العين وظيفتها الرؤية فقط، أما العقل فلا يكتفي بذلك بل يتعداه إلى التحليل والبحث عن المعنى، ويذهب بعيداً في حصيلة التجربة والذّاكرة لدى الشخص؛ كجزء من الاستنتاج والمعالجة؛ حتى يصل إلى المعنى، وأحياناً الصور المشاهدة لا تعطي المعنى نفسه للدماغ، قد تكون الصورة خادعة ومضللة، تراها العين شيئاً، ويفهمها العقل بشكل مختلف.

عندما عرفت هذه المعلومة، بدأت أدقق أكثر في الأشياء؛ خشية أن أراها بطريقة مغايرة للعقل! أو مخادعة للوعي؛ خصوصاً للذين يعانون ضعف الملاحظة وعدم الاهتمام.

العلماء لهم أدواتهم ومعطياتهم العلمية في هذه النظرية، بينما المشتغلون بالثقافة والأدب بخاصة، من أمثال الكاتب الأميركي صاحب المقولة الآنفة الذكر، لهم وجهة نظر أدبية مختلفة، يحاكون فيها النّفس البشريّة وتقلباتها وفقاً لشروط الزمان والمكان، ولهم أيضاً فهمهم الخاص للأمور من منطلقات أخرى، وبخاصة لجهة تميزهم بحساسية مفرطة برهافتها وشفافيتها، في التعامل مع معطيات الواقع، ومن ثم القراءة العميقة بصفحات الوجود، حتى لو كانت بالمعنى الفلسفي البحت، إلا أنها بالضرورة تنطلق من بعد إنساني بالدّرجة الأولى والأخيرة، وإلا لن يرتقي الكاتب إلى مستوى الخلق والإبداع، واعتباره ضميراً حياً للإنسان بحق، أو أحد النواميس الأزلية الثابتة للزمان.

يقول القدماء إن المظاهر خداعة، والوجوه الجميلة أحياناً قد تخفي في جوهرها شخصيات قبيحة والعكس صحيح.

عمق الشخصية الإنسانية يجعل من الصعب اكتشاف أغوارها من نظرة واحدة أو محادثة سريعة. البشر ليسوا كتباً مفتوحة كما يقال! لابد أن تقرأ الكتاب كاملاً حتى تستطيع أن تفهم محتوياته، ومضامينه كما يجب.

يروى عن الفيلسوف سقراط أنه قال: تحدث حتى أراك، وحسب الرواية أنه قال ما قال لشخص يقف أمامه، ما يعني أن ما يمثله الشخص من وعي هو الإنسان الذي يخاطبه، وليس الصورة التي يجسّدها وتقف قبالته، فالمشهد الخارجي جزء معبر عن الشخصية، لكنه يبقى في النهاية جزءاً يسيراً من حقيقته، وحتى تكتمل الحلقة ابحث عن الأجزاء المضمرة أو المخفية في الصورة، وهذا هو الذي ستراه عندما تنظر إليه. عندما نتأمل ما خلف الوجوه سنعرف حتماً أن الابتسامات لا تعبر بالضرورة عن السعادة، ولا الدموع تكشف عن الحزن.

jamal.alshehhi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر