أبواب

أضرار الـ «سيلفي»

علي العامري

بين فترة وأخرى تظهر التقنية جديدها مرفوقاً بظواهر مختلفة، ومع انتشار الهاتف المتحرك وتحسين جودة التصوير به، برز التصوير الذاتي الذي اصطلح على تسميته «سيلفي»، وانتشر بشكل كبير، ليتحول إلى ظاهرة في كل المجتمعات، حتى إنه تم تصنيع عصا تركّب على الهاتف ليسهل التقاط صورة ذاتية، يظهر في خلفيتها مشهد في الطبيعة أو أحد معالم مدينة أو حدث ما، ليقول «المصور» إنه كان هنا في هذا المكان أو ذاك الحدث. وبعد ذلك تنشر الصور على وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدأ صاحب الصورة الـ«سيلفي» بمراقبة عدّاد المعجبين بتلك الصورة وتعليقاتهم، ليكبر الوهم، وتزداد الهوة بين الناس اجتماعياً. مع التأكيد على أن التواصل الإلكتروني متى أحسن استخدامه، «يحل» مسألة المسافات ويكسر حواجز اللغات أو الثقافات، لكن يبدو أننا لانزال نستخدم تلك المواقع لإرضاء الذات بأوهام تزيدنا عزلة يوماً بعد يوم.

• التواصل الإلكتروني متى أحسن استخدامه، «يحل» مسألة المسافات ويكسر حواجز اللغات أو الثقافات، لكن يبدو أننا لانزال نستخدم تلك المواقع لإرضاء الذات بأوهام تزيدنا عزلة يوماً بعد يوم.

ففي السنوات التي سبقت ظاهرة الـ«سيلفي»، كنا نستعين بأحد المارة في الشارع بعد أن نلقي عليه التحية ونستأذنه ليلتقط لنا صورة، ومن تلك اللحظة قد ينشأ حوار، ولو كان بسيطاً، أو قد تشرق ابتسامة حين يطلب المصور العابر من الأشخاص قول «تشيز»، لتظهر صورة مبتسمة. وفي هذا الحوار القصير، تظهر علامات إنسانية لتواصل مباشر، نفتقده مع ظاهرة الـ«سيلفي»، التي تزيد «تشرنق» الإنسان حول نفسه، وتجعل العلاقات المباشرة تتراجع رويداً رويداً، كما لو أننا سائرون، طواعية، إلى عزلة نصنعها بأيدينا، علاوة على جعل الإنسان يعيش ما يسمى وهم «الاكتفاء الفردي»، كما لو أن كل واحد منا في غنى عن غيره من البشر. ولذلك، ربما، أصبحت مجتمعاتنا تميل أكثر إلى الفردانية، ووهم «الاكتفاء الاجتماعي»، مع أن الحقيقة غير ذلك، إذ يمكن ملاحظة أن مجتمعاتنا صارت تدور في «علاقات لها نهاية صلاحية»، مثلها مثل «الأغذية المعلبة»، لذلك أصبح العالم أكثر تعطشاً للعلاقات الإنسانية المفتوحة والممتدة والمتواصلة، وأصبح أكثر توقاً إلى المحبة، وأكثر نشداناً للدفء الاجتماعي، بعدما أصيب بصدمة الصقيع الإلكتروني.

وأعتقد أن التصوير الـ«سيلفي» يأتي مؤشراً، أو علامة، على ما يفقده البشر تدريجياً من علاقات حية ومباشرة ومتفاعلة، خلال سيرهم إلى «جليد الإلكترون».

من الملاحظ أن العلاقات الاجتماعية المباشرة بدأت بالتراجع أكثر مع تحولات الحياة المعاصرة، ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ليغدو الإنسان معزولاً في جزيرة افتراضية، لكنه يعيش وهم التواصل. حتى إننا نتساءل عن علاقة الجيران الآن، وكيف تكاد تصبح «منقرضة»، حتى لو كان الجار «الباب بالباب» كما يقال. ويمكن ملاحظة ذلك حين يلتقي جاران في مصعد البناية التي يسكنان فيها، وفي الطابق ذاته، إذ سرعان ما يحل الصمت أولاً، ثم تنتقل العيون إلى مرآة المصعد، وتنتقل إلى أزرار المصعد، هبوطاً أو صعوداً، كما لو أنهما محجوزان في هذا الحيز المكعب الذي لا يكل من الهبوط والصعود بالبشر والخضراوات والأثاث والصمت الكثيف.

alialameri@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر