أبواب

أعطني الناي واصمت

جمال الشحي

يقول الشاعر جبران خليل جبران في قصيدته المواكب «أعطني الناي وغني فالغناء سر الوجود».

مع الاعتذار للرائع الراحل جبران، واعتذار آخر للرائعة الحاضرة فيروز! لكن لا تأخذ الناي منهم، ولا تطلب ممن لا يغني أن يغني!

وتسألني يا صاحبي لماذا؟

• المتسلقون يا صاحبي هدفهم الوصول إلى القمم، كيف تطلب منه أن يقدر الجمال في الجبال ويفهم عنفوان الصخر، كيف تريد منه أن يعرف ألوان الشجر وآثار صغار الحيوانات، وملاحقة النور خلف الحشرات المضيئة ووداع الغروب ونزيف الشفق؟

لأن الغناء كما قلت سر الوجود، وما أتعبنا في هذه الحياة سوى إعطاء الأمر لغير أهله. وثانياً أنا من مدرسة الصمت، وأؤمن بأنه فضيلة، ومقدماً أستميحك عذراً، لأنك إن أعطيته الناي سأكسره.

هناك من يجلس ويستمتع في الحديقة، وهناك أيضاً من يدوس الحشائش والورود ليعبر الشارع إلى الضفة الأخرى. ومن كانت غايته العبور على الجمال ليصل إلى مبتغاه لن يفهم هبات الطبيعة، فلماذا تطلب منه الغناء؟

هو فقط عابر! ويا ليته كان عابر سبيل، وإنما هو عابر علينا، على شخصيات رواياتنا، على التاريخ، يستخدم رجله للعبور والدوس، وليس للتوقف وملاحظة الأشياء الجميلة في هذه الحياة. قصة الوجود تبدأ مع الملاحظة والتفكر، تبدأ مع التأمل، من لا يرى خطواته لن يتعثر بالحقيقة.

العابرون كالمتسلقين همهم الوصول! هل رأيت من قبل متسلقاً يقف ويلاحظ عشبة صغيرة بدأت تشق طريق حياتها بصبر بين الصخور على سفح جبل؟

المتسلقون يا صاحبي هدفهم الوصول إلى القمم، كيف تطلب منه أن يقدر الجمال في الجبال ويفهم عنفوان الصخر، كيف تريد منه أن يعرف ألوان الشجر وآثار صغار الحيوانات، وملاحقة النور خلف الحشرات المضيئة ووداع الغروب ونزيف الشفق؟

لا تطلب منه، فلن يعطيك إياه يا صاحبي، هو أداة وصول بالنسبة له وعصا الطريق، وإذا كان الغناء كما تقول هو «سر الوجود» فكيف تطلب من صوت النشاز ومن تعود على النفاق وكيل المديح أن يغني للوجود؟

صراحة لقد فاجأتني بهذا الطلب!

دعني أحدثك يا سيدي قليلاً عن سر الوجود ولمن تعطي هذه الحياة أسرارها.

الباحثون عن الحقيقة، المتأملون، المتفكرون، هؤلاء حظوظهم كبيرة، وصاحبنا العابر ليس منهم! أعطته الحياة أحد مفاتيحها وأغلقت عنه كل النوافذ، وكعادته بسرعة دخل، وعندما اعتقد في لحظة أنه قد وصل فوجئ بأنه حتى الآن لم يبدأ.

مفتاح الدخول يجده كثيرون، أما طريق الخروج فتلك قصة أخرى!

قدره أن يقضي حياته في البحث، ولو كنت مكانه لانتبهت للأشياء الصغيرة جداً، لأنك عندما تفقدها تصبح كبيرة وصعبة التعويض. ولو كنت مكانه، وأنا لا أريد أن أكون، كنت قد أسرفت في «العطاء».. العطاء بلا مقابل يا صاحبي سر الحياة، ينير ممراتها المظلمة، ويعطيك مفاتيحها الصحيحة.

أخيراً، أقول له لا تكن مثل «طاغور» الذي قال: «لقد أنفقت ثروة طائلة في السفر إلى شواطئ بعيدة، فرأيت جبالاً شاهقة، ومحيطات لا يحدها حد، ولكني لم أجد متسعاً من الوقت لأن أخطو بضع خطوات قليلة خارج منزلي، لأنظر إلى قطرة واحدة من الندى على ورقة واحدة من العشب».

آسف لن أعطيك الناي ولن أغني! قليل من الصمت يفي بالغرض.

jamal.alshehhi@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر