لحظة

مجتمعات الأقنعة

ياسر حارب

عندما ظهر العالِم الفيزيائي ماكس بلانك بنظرية ميكانيكا الكم لم يستطع كثيرون أن يستوعبوا ما يقول، حتى صديقه والفيزيائي الفذ آينشتاين لم يقتنع في البداية بالنظرية، خصوصاً أنها تعمل خارج نطاق العقل والمنطق، فعندما يقول لك أحد المتخصصين في الموضوع إن أحد الجسيمات تحت الذرية يمكنه أن يكون في مكانين في الوقت نفسه فإنك لن تصدق، ولو قال لك إن جسيماً يدور مع عقارب الساعة، وفي الوقت نفسه يدور عكسها فإن ذلك سيبدو عبثاً وهرطقة علمية، لكنها الحقيقة!

ولشرح هذه النظرية قدّم النمساوي إرفن شرودنغر مفهوماً لشرح نظرية الكم عُرف بمبدأ قطة شرودنغر، حيث افترض أن هناك قطة موجودة في صندوق مغلق وفي الصندوق زجاجة فيها غاز سام ومُغلقة فوقها مطرقة. ولاختصار الموضوع، فإن المطرقة لو سقطت على الزجاجة فستكسرها وسيتسرب الغاز وتموت القطة. لو افترضنا أن أحدنا وقف أمام الصندوق وتساءل: هل القطة حية أم ميتة، فما الجواب؟ طبقاً لميكانيكا الكم فإن القطة في حالة مركّبة من الحياة والموت، ولن يعرف الحقيقة حتى يفتح الصندوق! تسمى هذه الحالة في فيزياء الكم Entanglement أو تعالُق.

ما مناسبة هذا الكلام؟ تحدثتُ قبل يومين عن مفهوم «البيانات الضخمة» وكيف أنها تكشف لنا عن حقيقتنا خلف الشاشات، وإنه من طبيعة الإنسان أن يكون متناقضاً، لكن يبدو أننا ــ في مجتمعات الخليج على وجه الخصوص ــ من أكثر الناس تناقضاً، نحن نعيش حياتين، واحدة أمام الناس والأخرى لا يعرف عنها إلا القليلون ممن نثق بهم، لا ننفك نغطي وجوهنا بالأقنعة لكي نخفي مساوئ نفوسنا، ومن شدة احترافنا لهذه الحياة صارت لدينا خزائن مليئة بالأقنعة، لكل مناسبة قناع، نحن مثل قطة شرودنغر، في حالة تعالق، فلا نحن صادقون ولا كاذبون، لأننا نفعل الشيئين في الوقت نفسه، دون أن نشعر بالارتباك أو بتأنيب الضمير، وما يحدد حقيقتنا هو مدى معرفة الآخرين بها، فإذا اقتنعوا بأننا صادقون فنحن كذلك، وإذا افتضح أمرنا فسيعلم العالم من نكون. ألم أقل لكم إننا في حالة تعالق!

إذن، حقيقتنا تعتمد على مدى انضباط خطتنا، على قدرتنا بالالتزام، بالسرية والغموض، لا يهم ماذا نفعل في الظلام، المهم ألا تشرق الشمس إلا ونحن كالباقين: بريئون، مؤمنون، أوفياء، نُغيث الملهوف ونساعد المحتاج ولا تفوتنا صلاة الجماعة، لا تهم كمية السوداوية والعنصرية والخبث التي بداخلنا، المهم فقط أن يعرف الآخرون عنا ما نريد لهم أن يعرفوا، ولذلك فإننا نطلب من الله الستر دائماً ولا نكتفي بطلب الهداية والمغفرة؛ لأننا نظن أننا نستطيع أن نتفاهم مع الله لكننا لا نحتمل أن يكشف الآخرون حقيقتنا.

وصلنا إلى هذه المرحلة لأننا نراقب بعضنا بعضاً، نتدخل في حياة الآخرين، نبحث عن فضائحهم لنصنفهم في خانة ما، نحكم عليهم من لباسهم، ننزلهم في قاع الجحيم، أو نرتقي بهم لدرجات الصديقين والصالحين.. من لباسهم فقط! ربما نحتاج إلى عالِم مثل شرودنغر ليشرح لنا هذه المعضلة النفسية.

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر