لحظة

لأنها هناك

ياسر حارب

في فيلم The Walk يسعى الفرنسي فيليب بيتيت في العام 1974 للمشي على سِلك معدني معلق بين قمّتي برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك اللذين كان العمل على إنشائهما قد شارف على الانتهاء. يصر فيليب على اقتراف تلك المخاطرة العظيمة رغم استحالة المهمة، وعندما سأله البعض لماذا يبحث عن الموت قال لهم: «بل أبحث عن الحياة». وحدهم أصدقاؤه ظلوا مؤمنين به حتى النهاية.

وخلال مقابلة مع مجموعة من متسلقي الجبال المحترفين سُئِل أحدهم عن سبب إقدامهم على مغامرة خطيرة كتسلق قمة إيفرست فقال ببساطة: «لأنها هناك، ويكفي أن نكون معاً حتى نصل». يقول جلال الدين الرومي: «تُلَقّنُ الحكمة على لسان الواعظين بقدر همم المستمعين». أي إن صاحب الحلم يحتاج إلى أن يكون في الوسط المناسب حتى يتمكن من تحقيق حلمه، والوسط المناسب يعني أن يكون مع أناس يساندونه، أو على الأقل يلهمونه للمضي قدماً، ولا يعني ذلك أن تكون الظروف كلها مواتية، بل أن تكون دافعة، فجبران خليل جبران الذي امتلأت حياته بالغربة والهزيمة والانكسارات العاطفية لا يمكننا أن نقول عنه إنه عاش حياة سعيدة، لكنها رغم البؤس والمرض كانت تدفعه للإبداع والكتابة، لأن الكتابة كانت هناك، ولأن ماري هاكسل التي عشقها وعلمته اللغة الإنجليزية والرسم وكانت تُصحح له أعماله كانت هناك أيضاً.

وكذلك هي حال فيليب ومتسلقي إيفرست وكل «الغريبين» والعلماء والمبدعين والمخترعين، يفعلون ما يفعلون لأنه هناك، لا مكاسب مرجوة، لا أهداف تتحقق، لا سعادة متوقعة.. لا شيء سوى الاستمرار فقط. سألتُ مرة عالِم ذرة في المركز الأوروبي للأبحاث النووية بجنيف: لماذا يقضي عمره في البحث عن جسيمات لا تُرى ولا يعرف عنها شيئاً؟ فأجاب تماماً مثلما قال متسلق الجبال: «لأنها هناك». ثم تابع: إن «البحث عن المجهول هو الذي يفرق بيننا وبين الحيوان». أشعر أحياناً بأن كل ما أقوم به لا فائدة منه، وأقول في نفسي «انسحب من الحياة العامة واعمل في شيء يدر عليك المال». إلا أنني حين أخرج من بيتي كل صباح أقول في نفسي إن كل الذين حققوا شيئاً يستحق التذكر لم يفعلوا ذلك لأنه هناك فقط، بل لأنهم يعلمون بأنهم هناك أيضاً، حقيقتهم وقيمتهم تتجلى أمامهم كلما أدركوا أنهم مازالوا قادرين على الاستمرار.

yasser.hareb@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر